قصة «قارئة الفنجان» فهي وفقاً لأكثر من مصدر حكاية حقيقية مثلت لعبد الحليم ألماً وجرحاً غائراً رغم نجاحه الباهر في إلقائها في آخر حفل له في ربيع 1976 وإن كان بعض الجمهور الحاضر حاول التشويش عليه مما تسبب في حزنه من تصرف القلة.. وقارئة الفنجان عادة معروفة حتى يومنا الراهن خاصة في مصر، وتجد كثير من السيدات اللواتي يدعين قدرتهن على قراءة ما يحويه الفنجان من طالع ومستقبل ويصدقهم الكثير من المصريين، وبخلاف الفنجان يوجد أيضا قراءة الودع أو «وشوشة الودع» وتقوم بهذه المهمة أيضا نسوة ينتمين الى مجتمع الغجر وهن فئة قليلة في مصر. أما قارئة فنجان عبد الحليم فهي السيدة السودانية «مرجانة» التي صادفها يوماً وتنبأت له بنجاحه وشهرته الى أن تقربت إليه وقرأت له فنجانه ذات يوم ولكن هذه المرة امتنعت عن الكلام خوفاً على مشاعره، وعندما ألح عليها في الكلام وقراءة ما به أفصحت له عن رحلة مرضه الشديدة وموته وعدم الاقتران بحب عمره. ورغم أن الحوار أحزنه للغاية إلا أنه أصر على سرد ما جاء بالفنجان لصديقه نزار قباني خلال إحدى زياراته للندن وطلب منه كتابة قصيدة بهذا المعنى يحكي فيها قصة حبه الضائع، وكان نزار على علم بقصة حبه للفنانة سعاد حسني، حيث يتردد أنه طلب منها الابتعاد عن عبد الحليم حتى لا تؤذيه باقترانه بها تجنباً لشرور أحد المسؤولين النافذين في ذاك الوقت، وفعلاً قيل عقب واقعة انتحار سعاد حسني أن هذا المسؤول الكبير كان وراء مقتلها في لندن وليس كما قيل انتحاراً، عقب معرفته بفحوى مذكراتها التي أفضت بها الى أحد الصحفيين ولم تكن تعلم أنه يتعامل مع الأجهزة الأمنية وقد أبلغهم فحوى مذكراتها.
غابت سعاد عن عبد الحليم، ولكن الحب استمر ولم يستطع العندليب نسيانها للحظة، وكتب نزار القصيدة التي مرت ببعض المشكلات أدت في النهاية الى تغيير بضعة كلمات خشية أن يغضب هذا المسؤول الكبير، ليخرج الشاعر الكبير بكلمات غاية في الروعة تعبر تماماً عما يجيش في قلب عبد الحليم، يقول في مطلعها: «جلست والخوف بعينيها تتأمل فنجاني المقلوب قالت يا ولدي لا تحزن فالحب عليك هو المكتوب يا ولدي قد مات شهيداً من مات فداء للمحبوب يا ولدي بصرت ونجمت كثيراً لكني لم أعرف أبداً فنجاناً يشبه فنجانك بصرت ونجمت كثيراً لكني لم أعرف أبداً أحزاناً تشبه أحزانك مقدورك أن تمضي أبداً في بحر الحب بغير قلوع وتكون حياتك طول العمر كتاب دموع مقدورك أن تبقى مسجوناً بين الماء وبين النار فبرغم جميع حرائقه وبرغم جميع سوابقه وبرغم الحزن الساكن فينا ليل نهار وبرغم الريح.. وبرغم الجو الماطر والإعصار الحب سيبقى يا ولدي أحلى الأقدار يا ولدي».
لقد أبدع نزار قباني في هذه المقدمة ليبدأ جواً خيالياً ليعيش في هذا العالم الساحر، وهو عالم التنجيم والعرافة الذي يقتحمه أي إنسان رغبة في معرفة الغيب والاطلاع على غده وما يكتبه له القدر من صراعات وخفايا، فعبد الحليم إنسان مثل كل البشر ويريد معرفة ما يخفيه مستقبله من مفاجآت.. ونجد أن قارئة الفنجان في رواية وحبكة نزار قباني تتأمل الفنجان المقلوب وهو هنا يشير الى واقع حقيقي، ثم يتركه الى الخيال لتطالع الفنجان بريبة، حيث استشعرت ما يخفيه طالع عبد الحليم بينما لم يكن صعباً عليه أن يقرأ القلق والخوف على وجهها ليسألها أن تخبره بما ترى، ولكنها رفضت في البداية وإن كانت حاولت لاحقاً أن تخبره بطالعة مع التخفيف عنه من وطأة ما تجيش به مشاعره ولكنها أخبرته بألا يحزن لأن الحب سيلازمه طيلة حياته، رغم أن الموت حباً وعشقاً هو مصيره المحتوم، وأنه سيكون له أجر الشهادة لأنه أحب وحافظ على حبه فسيموت شهيداً.
ثم يتوالى الشاعر في سرد بقية الدراما والحبكة ليصور مزايا المرأة التي تقتحم حياة المطرب لترسم معالم كل حياته، فجمالها يفوق جمال كل النساء، فعيناها ساحرة تحمل كل معاني الجمال، أما عنها كامرأة فهي ساحرة وفمها مثل عناقيد العنب في حلاوته وطعمه وشفاها أشهى من العنب ذاته الذي يصنع منه أجود أنواع الخمور فما بالنا بروعة تلاقي الشفاه، ويستمر وصف المحبوبة الغائبة ليصل الشاعر الى ضحكتها العذبة التي تشبه الموسيقى الهادئة في أجمل نغماتها عذوبة ورقة وكأن لنغماتها عبق ورائحة الورود التي لا تغيب عن بشر، أما شعرها فيسترسل على كتفيها طويلاً، منسدلاً، منساباً في نعومة تزيد الرائي له رغبة في لمسه والشعور بنعومته، وإذا كان الشعر هو تاج المرأة فما بالنا بجمال امرأة يصل شعرها لكل الدنيا وفي هذا تشبيه على أنها كائن غير موجود في دنيانا.. غير أنه رغم هذا الجمال الذي يتدفق من المحبوبة ويزيدها رقة وعذوبة إلا أن طريق عبد الحليم إليها مفروش بالأهوال والمخاطر فقلبه يهواها وهي تمثل له حياته ودنيته ولكنها تجعل سماءه ممطرة وطريقه مسدود بلا نوافذ.. ويقول نزار في هذا المقطع: «بحياتك يا ولدي امرأة عيناها سبحان المعبود فمها مرسوم كالعنقود ضحكتها أنغام وورود والشعر الغجري المجنون يسافر في كل الدنيا قد تغدو امرأة يا ولدي يهواها القلب هي الدنيا لكن سماءك ممطرة وطريقك مسدود مسدود».
ثم يواصل الشاعر سرد سبب تحذير قارئة الفنجان من الاقتراب من تلك المحبوبة الملاك الطاهر، فالأميرة النائمة في مرقدها بقصرها المرصود صعب الوصول إليها لأن من يدخل حجرتها لن يخرج منها أبداً وسيعيش سجيناً، ومن يسعى لطلب يدها أو حتى يقترب من سور حديقتها فلن تكتب له النجاة، ومن يحاول أن يفك ضفائرها فمصير ضائع، فمفقود هو من يقترب من تلك حبيبة القلب، فقصرها شاهق لن يستطيع تسلقه واقتحامه، وهالك من يرد الوصول إلى مرقدها.. ويقول نزار في هذا المقطع: «فحبيبة قلبك يا ولدي نائمة في قصر مرصود من يدخل حجرتها.. من يطلب يدها من يدنو من سور حديقتها.. من حاول فك ضفائرها يا ولدي مفقود.. مفقود».
لقد أسهبت قارئة الفنجان في تعداد صعوبات الوصول الى حبيبة القلب، فيبحث عنها في كل صوب وحدب بلا نتيجة حتى وإن بلغت به القوة ليعرف لغة البحار وأمواجه فلن يستدل على مكانها وسيمر به الحال ليقترب من كل شطآن الدنيا بلا أمل حتى وإن جاب بحار العالم بحرا بحرا، الى أن تفيض الدموع أنهار ويتضخم الحزن في القلب والضلوع حتى يكون مثل الأشجار ليقف وحيداً في النهاية أو هكذا سيظل مهزوماً مكسور الخاطر والقلب والوجدان ليعود وحيداً حتى نهاية العمر، حيث يكتشف في نهاية أمره مع قرب رحيله عن عالمنا المحسوس أن حبيبة القلب مثل السراب أو خيط الدخان ليس لها مكانا سوى قلبه فهي بلا عنوان وسيعود في نهاية أمره مثل الملك المخلوع عن عرشه وصولجانه وحاشيته، فما أبدع من هذا من رحلة سراب وضياع الأمل، ولهذا خافت «مرجانة» في البداية البوح بتفاصيل ما تقرأه في الفنجان حتى لا تعذب عبد الحليم وتجعله يعيش حالة الوهم والسراب والحب الضائع، وهنا يصور نزار هذه الحالة كالأتي: «ستفتش عنها يا ولدي في كل مكان وستسأل عنها موج البحر وستسأل فيروز الشطآن وتجوب بحاراً وبحارا.. وتفيض دموعك أنهارا وسيكبر حزنك حتى يصبح أشجارا وسترجع يوماً يا ولدي مهزوماً مكسور الوجدان وستعرف بعد رحيل العمر بأنك كنت تطارد خيط دخان فحبيبة قلبك يا ولدي ليس لها أرض أو وطن أو عنوان ما أصعب أن تهوى امرأة يا ولدي ليس لها عنوان وترجعُ كالملكِ المخلوع».
في النهاية.. لا نقول سوى أن «قارئة الفنجان» تمثل لوعة الحب حتى لو كان وهماً أو ضائعاً، فكانت مثالاً رائعاً لحالة مثالية من العشق والغرام والإبداع في تصوير هذه الحب الذي سيجعل صاحبه يبحث عن محبوبته في بقاع الدنيا وبحارها وشطآنها بلا أمل ليعود في النهاية متخلياً عن حياته التي ضاعت فدى المحبوب ونعتبره في عداد الشهداء. إنها قصة عبد الحليم حافظ وسعاد حسني التي لم تكتمل كما كان يأمل العندليب..
0 تعليق على موضوع : "العرافة" الخالة مرجانة.. قارئة فنجان عبد الحليم حافظ ...قصة الحب الضائع بين حليم وسعاد حسني
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات