رحلة تلحين انتهت بكرسي خلف «الست» القصبجي وأم كلثوم
قد لا تكون الكواليس خلف الستار مُشرقة كالصورة التي تظهر على المسرح أمام الجمهور، لكنها دائمًا تقدم الحقيقة بعيدًا عن بهرجة الأضواء، وتأتي بما قد لا يعانق أهواء الكثيرين، ولكن تلك هي خِصال الحقيقة صادمة أحيانًا وربما مأساوية، فقط لمن عاشها في وقت يتوهم الآخرون فيه غير ذلك. على كرسيه الخشبي اعتاد محمد القصبجي الجلوس بظهر نصف منحن، مُمسكًا بريشته التي تضرب أوتار العود فتثير نغمًا، تشدو عليه كوكب الشرق أم كلثوم، فيتعالى هتاف الجماهير "الله عليكي يا سِت"، ثم يُسدل الستار...
وينصرف الحضور بعد انتهاء الحفل، وتكتب الصحافة عن عظمة "السِت" وتألقها في حفلها الشهري الأخير، بينما يخلو "العوّاد" إلى أشجانه متذكرًا أيام المجد والصيت، حينما كانت أم كلثوم "آنسة" قادمة من قرية "طماي" في عام 1924 تعرفه ولا يعرفها، تحفظ ألحانه عن ظهر قلب، فعهدها بالرعاية، وعرّفها على مدير شركة "أوديون" التي أنتجت لها أسطوانة، لّحن فيها "القصبجي" 11 أغنية، كما خلصها من تخت المنشدين المكون من والدها وشقيقها وابن عمها وجعلها تغني أمام تخت شرقي حقيقي من العازفين الكبار، ليبدأ معها رحلة الصعود إلى القمة. والشيء بالشيء يذكر، لم يعرف "القصبجي" طعم النجومية الحقيقية إلا بعد تعاونه مع أم كلثوم في عام 1924،، في أول أغنية لهما بعنوان "قال إيه حلف مايكلمنيش"، رغم عمله في التلحين قبل لقائه بها بسنوات قليلة، ومن ثم أصبح الاثنان توأمًا فنيًّا لا ينفصل، وامتد ذلك إلى سنوات طويلة، لحّن خلالها "القصبجي" 220 أغنية للسيدة أم كلثوم، ولعل ذلك ما دفعه للقول عنها في حوار مع مجلة "أهل الفن" عام 1954 "هي خلاصة دمي وحياتي وشبابي".
رافق "القصبجي" أم كلثوم على عوده منذ ذلك الحين، ووهبها سلسلة طويلة من أجمل ألحانه، وبلغت هذه الشراكة القمة مع أغنية "رق الحبيب" عام 1941، التي كانت منعطفًا في علاقته بـ "الست"، حيث رفع الملحن سقف نجاحه إلى مستوى غير مسبوق، وكان عليه أن يقدم شيئًا أكثر تميزًا بعدها حتى يحافظ على ذلك النجاح الباهر، إلا أن هذا لم يحدث، وبدأ إنتاجه من الألحان يخفت شيئًا فشيء، حتى قدم لها ثلاث أغنيات في فيلمها الأخير "فاطمة"، ، وختمت بها مشوارها مع القصبجي. بدأت أم كلثوم ترفض ألحان "القصبجي"، وتفضّل عليه رياض السنباطي، لكنه لم يشكُ، وإنما عكف على عمل ألحان أكثر تميزًا حتى تنال إعجاب "الست"، التي أصبحت - آنذاك - ملكة متوجة على عرش الغناء العربي، يتودد إليها الرؤساء والملوك، ويخشى أهل الفن سخطها.
وذات مرة عرض "القصبجي" على كوكب الشرق لحنًا، فرفضته أم كلثوم ولم تكتف بذلك بل قالت له: "يبدو يا قصب إنك محتاج إلى راحة طويلة"، ومنذ ذلك الوقت لزم مكانه ورائها على خشبة المسرح عازفًا للعود وقائدًا للفرقة الموسيقية لمدة 20 عامًا.
لاحظ النقّاد والصحفيون هجر "الست" لألحان القصبجي، فكتب الصحفي أنور عبد الملك عام 1950 مقالًا في مجلة "الإذاعة" الصادرة في لبنان، قال فيها: "يلاحظ أن الآنسة أم كلثوم أصبحت لا تغني ألحانًا جديدة للأستاذ محمد القصبجي، بل ولم تعد حتى تغني ألحانه القديمة"، وتابع: "القصبجي هو أول من أخذت أم كلثوم عليه الغناء وأول من تغنت بألحانه من الملحنين..
هذا كله يبيّن لنا مدى تنكر أم كلثوم للقصبجي الذي أفنى زهرة شبابه في خدمتها وذاق معها مرّ الحياة قبل حلوها.. فهل يليق يا صاحبة العصمة أن تأخذي الرجل لحمًا وترمينه عظمًا؟ ".
ظل "العوّاد العجوز"، كاتمًا أحزانه وآلامه في نفسه لا يبوح بها إلى أحد، يكتفي بالعزف وراء "الست" في صمت، حتى سافر مع الفرقة لإحياء حفلة في دمشق عام 1958، وهناك نجح الصحفي "عدنان مراد" في استدراج "القصبجي" للبوح بما يدور وراء الكواليس حول علاقته المتدهورة- كملحن - بالسيدة أم كلثوم". وخلال ذلك الحوار الاستثنائي الذي نشرته مجلة "الشبكة" عام 1958 قال محمد القصبجي: "أنا هويت وانتهيت يا أستاذ، خلاص، لم يبقَ مني إلا أنامل جرداء، ورأس جرداء، أفكر في عملي اليوم حتى آكل في الغد..
قل عني إني بقايا ملحن، بل بقايا شخص، ماذا يهم الإذاعة مني؟"، وتابع: "أنا عملت ما بوسعي وخرجت بأم كلثوم في أكثر من عشرة ألحان قدمتها لها.. ولكن أم كلثوم أهانتني، وعندما تهينني أم كلثوم فهذا يعني أحد أمرين، إما أني فاشل، وهذا رأيها، أو أنها رجعية في لونها وألحانها وغنائها، وهذا رأيي".
واصل "القصبجي" حديثه في الحوار الذي أعادت نشره جريدة "المدن" اللبنانية قائلًا: "إني لا أستطيع أن أتحدث عن أم كلثوم كعازف في فرقتها، أنا أحد بناة أم كلثوم"، متابعًا: "هل تريد أن أقول لك إن محمد القصبجي صاحب الأمجاد الطويلة هو مجرد عازف على العود الآن في فرقة أم كلثوم؟ هل تريد أن أقول له إن أم كلثوم لم تهضم مدرستي وقذفتني إلى الصف الخلفي، مع الآلاتية؟.. أنا انتهيت لم أعد ألحن.. سني لم يعد يساعدني.. وأنا عبد في طاعة مولاته، هكذا تحتم علي لقمة العيش".
يبدو أن قلب "القصبجي" لم يتحمل إهمال "الست" له أكثر من ذلك، فلفظ أنفاسه الأخيرة خلال تدريبات الفرقة الموسيقية على لحن "الأطلال"، يوم 25 مارس 1966، بعد أن أتم عامه الرابع والسبعين، تاركًا ورائه إرثَا فنيًا يقدره فقط أصحاب الذوق الرفيع.
8 تعليق على موضوع : رحلة تلحين انتهت بكرسي خلف «الست» الوجه الآخر لعلاقة أم كلثوم بالقصبجي..
لقد فاتكم في مقالكم ذكر أن الخلاف الاساسي الذي دفع أم كلثوم الى معاملة القصبجي معاملة سيئة هو تلحينه مجموعة ألحان للمطربة الفائقة أسمهان وأشهرها أغنية ياطيور التي وصلت بطبقة صوتية لم ولن يصل اليها بشر .
فدبت الغيرة عند أم كلثوم وقررت الانتقام من محمد القصبجي وعند وفاة أسمهان انتقمت منه دون تردد ووصل لما وصل اليه
رحمهم الله جميعا
القصبجي هو موسيقار عظيم ومجدد سابق لعصره. لايفهمه الا موسيقار مجدد مثله كالاستاذ عبد الوهاب.
أنا احترم القصبجي ولكن لما دخل عملاق التلحين الاستاذ الموسيقار رياض السنباطي .وبخاصة قصيد الأطلال ذالك الابداع الذي فاق الحان القصبجي بسنين ضوئية والدليل أن القصبجي لفظ أنفاسه الأخيرة حسرة في تدريبات
يقال ان القصبجيزارتكب خظاءلايغتفر بتلحين قصيدة شوقي (هل تيم البان فوءاد الحمام ) واعطاها لاسمهان ، مع ان القصايد المطولات كانت من تخصص ام كلثوم وليس من تخصص اسمهان ، ولكن اسمهان ابدعت في غناء القصيدة ومدتها حوالي نصف ساعة (استوديو ) ولو غنتها ام كلثوم في حفلة فربما تجاوزت ساعة ونصف لما فيها من قفلات واهات وسلطنة ، وهذه تعتبر سقطة من القصبجي لم تغفرها له ام كلثوم ، وبالكاد رضت به ان يكون عوادا خلفها يتجرع المرارة والحسرة على مجدها الغابر مع ملهمته
رحمه الله ابوالفن واستاذ الكل
ولكن القصبجي خلد اسمه في رق الحبيب وهذا اللحن الذهبي يبقى منحوتا في سجل الموسيقى على مر الزمان .وانا أحتفظ بهذه الأغنية منذ ثلاثين سنة .
رياض السنباطي لا يعدو ان يكون تلميذا في مدرسة القصبحي الذاهرة والمتنوعة جميع الحان السنباطي لأم كلثوم تبدو وكانها لحن واحد طويل بينما تشعر باختلاف اللحن والصور الموسيقية حسب كل اغنية عند القصبجي او عبد الوهاب وبليغ حمدي
و امتناع ام كلثوم عن غناء الحان القصبجي هو لان صوتها اصيب بالشيخوخة ولم يعد قادرا على اداء الحان القصبجي التي تحتاج الى مهارات صوتية لم تعد ام كلثوم تمتلكها فاتجهت نحو الحان السنباطي السهله جدآ عليها و تستطيع ملاحظة ذلك من ادائها في التسجيلات المتاخرة لاغنية رق الحبيب وتقطع انفاسها وخروج الاداء من بين يديها وححم التعب و المشقة في اداء اللحن لان صوتها انتقل لمرحلة الضعف التي لا تسمح له بأداء الحان كبيرة كألحان القصبجي
لا ننكر صوت ام كلثوم وذكائها ومقدرتها الفنية الكبيرة ولكن بدون ادنى شك الموسيقار محمد القصبجي له فضل كبير عليها مظلوما ولم ينل حقه ومكانته التي يستحقها . وبالنسبة لي وبرأيي هو افضل من لحن وجدد وعند المقارنة مع الموسيقار رياض السنباطي او الموسيقار محمد عبد الوهاب هو افضلهم و اكثرهم دراية.
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات