معين حمد العماطوري
يعد الموسيقار فريد الأطرش واحداً من جيل العمالقة الكبار الذين كان لهم العطاء المميز والبارز في الساحة الفنية بعامة والموسيقى العربية بخاصة،
وقد لعبت المعاناة دوراً كبيراً في حياته، والقدر حطم كثيراً من طموحاته، رغم أنه معروف بنسبه وأصله فهو أمير ابن أمير، وهو المولود في قرية «القريا» ما بين عام 1910 - 1916 وهي من قرى محافظة السويداء التي لها تاريخ نضالي قديم ضد الاستعمار العثماني والفرنسي، فإلى جانب أنه ابن الأمير فهد الأطرش فهو ابن الأميرة علياء المنذر التي أنجبت خمسة أبناء توفي اثنان وهما في سني حياتهما الأولى وهما «أنور ووداد» أما الثلاثة الآخرون فهم فؤاد وفريد وآمال التي أصبحت فيما بعد المطربة أسمهان.
كانت الأسرة تعيش حياة رغيدة إلى أن انتهت الحرب العالمية الأولى بأوزارها الثقيلة وبدأ الاستعمار الفرنسي يفرض سيطرته على بلاد الشام، فقام السوريون بثورتهم المعروفة تحت قيادة المغفور له سلطان باشا الأطرش. ومنذ ذلك الحين تبدلت حياة فريد وأسرته وعرف عدم الاستقرار طريقه إليهم، فتنقلت الأسرة بين السويداء ودمشق وبيروت تاركين رب الأسرة في معاركه في الجبل ضد الاستعمار الفرنسي. في بيروت أقامت الأسرة، ولكن الفرنسيين بدأوا بمطاردتها فقررت الأم عام 1923 الهرب بأولادها إلى مصر، أما لماذا القاهرة؟ لأنها بعيدة عن نفوذ فرنسا، ونفوذ الإنجليز كان قد تقلص بعد ثورة عام 1919 وإعلان دستور 1923 إضافة إلى الصداقة القوية بين سلطان الأطرش ورئيس وزراء مصر وزعيمها آنذاك سعد زغلول.
كان التمرد عنده يشكل له القلق الدائم وشدة الفضول للمعرفة، فإذا سمع التلاميذ يرتلون انتظرهم واحداً بعد الآخر، وحفظ معهم ما يحفظون، ومرة سمعه القس الذي يلقن التلاميذ أصول الدين المسيحي وفنون الابتهالات، فضمه إلى الفصل. وسرعان ما ارتفعَ صوت فريد وصار رئيساً لكل الذين ينشدون تحت قبة الكنيسة، ويأخذه القس إلى حجرته، ويقول له: إن الترانيم صلاة منغمة، فلا بد أن يتبدى في الصوت خشوع الصلاة، وقصة السيد المسيح على الأرض مأساة، فلا بد أن يشيع في الصوت الحزن مع الخشوع: «بلّل صوتَكَ بالدموعِ»! يقول عن ذلك فريد الأطرش: «إذا غنيت فإن الكلمة حزينة، وإذا لحنت فإن النغم أكثر حزناً، وكأن الأغنية كلمة والموسيقى الجسر الوحيد للتعبير عن هذا الحب».
يمكن القول إن تمرد فريد الأطرش لم يقم على أرضية ثقافية يمكن اعتمادها أساساً في تمرده الموسيقي، فهو وإن جاء متأخراً بعض الشيء عن العمالقة الذين سبقوه في طريق المجد، إلا أنه كان مثلهم فهو أيضاً اكتفى من الثقافة التي أتيحت له، فمن إذاعة «شريدان» الأهلية، قبل أن تغريه إذاعة – الياس شقال– التي عمل فيها مطرباً متدرباً، وجد نفسه في بحبوحة من العيش فالتحق بمعهد فؤاد الأول للموسيقى، وكان من حسن حظه أن يتتلمذ في العزف على العود على يدي الموسيقار المبدع رياض السنباطي ولكنه لم يكتف بما كان يقدمه له المعهد، فلجأ إلى من سبق زمانه بموسيقاه بمئة عام على الأقل وهو الموسيقار محمد القصبجي، فلم يبخل عليه بعلمه، كذلك استعان بعازف العود الخطير والملحن اللبناني المعروف فريد غصن ليعمل في صالة بديعة مصابني ويغدو بفضل هذا الثلاثي علماً من أعلام العزف على العود.
تعرّف فريد الأطرش على ثلّة من الموسيقيين الذين غدوا فيما بعد من كبار المطربين والملحنين منهم: محمود الشريف، محمد عبد المطلب، إبراهيم حمودة، فريد غصن، جورج ميشيل ومحمد فوزي. وشكّل مع فريد غصن وجورج ميشيل ثلاثياً حيث كانوا يقدمون أسبوعياً مقطوعات من العزف على العود باسم «الفرسان الثلاثة».
استطاع الأطرش أن يكسر حاجز التقليد السائد آنذاك في العزف على آلة العود فابتدع أسلوباً خاصاً به يدل بوضوح على ملامح شخصيته وشخصية كل من يتبع أسلوبه في العزف. وروح التجديد والتطوير التي يحملها في روحه ورؤيته ذات الخصوصية للعود جعلت فريد الأطرش ينهض بهذه الآلة ويخرجها من إطارها التقليدي إلى الحياة المتجددة والعطاء الدائم وجعلها تخاطب وتخالط أرواح الجماهير بطريقة معاصرة. وحصل بالتالي على أفئدة سامعيه، وذلك حين جعل من آلة العود آلة محاورة للأوركسترا كما في «حكاية غرامي» التي قدمت في تركيا ونال فيها جائزة أفضل عازف عود في العالم عام 1962، وهي المعروفة لعازف الغيتار الأسباني الشهير «ألبينيز» والتي اشتهرت باسم «استورياس» على الرغم من أن تلك المعزوفة تعود في أصلها إلى الروح الأندلسية إلا أن فريد قد سخر فردوس الأندلس إلى فردوسه المفقود. من يستمع للمعزوفتين يلاحظ كيف جعل فريد آلة العود آلة محاورة للآلات الموسيقية في الفرقة الموسيقية، هذا ما دفع المعلم الكبير مدحت عاصم أن يقول في عزفه عندما استمع له مصادفة في معهد فؤاد الأول: «هو أمين المهدي في حلاوته، ورياض السنباطي في رقته، وفريد غصن في مقدرته، إنه عازف من طراز خاص، جمع الحلاوة والقدرة والرقة في ريشة واحدة».
هذا الأمر جعل النقاد والكتاب يقولون فيه: «إذا كان زرياب قد أضاف الوتر الخامس لآلة العود قبل ألف عام ليتيح له ذلك خلق احتواء أفكار جديدة في النغم الشرقي ، فإن فريد الأطرش رد لتلك الآلة اعتبارها وأنزلها مكانةً رئيسيةً في الفرق الموسيقية وأعطى الفرصة لها كي تعبر بصدق عن دفقات الحزن التي تعتل في النفس البشرية، فكأنما قد أضاف بذلك وتراً سادساً يعلن للوهلة الأولى عن وجوده عندما تبدأ أصابعه بالتعامل مع الأوتار برشاقة وبأسلوب لا تخطؤه الأذن أو الجوارح».
غنى فريد الأطرش من ألحان مدحت عاصم أغنيتين هما «كرهت حبك» وأغنية «من يوم ما حبك فؤادي»، ومن ألحان يحيى اللبابيدي أغنية «يا ريتني طير لطير حواليك»، وهي الأغاني التي غناها فريد الأطرش من ألحان غيره في بداية مسيرته الفنية. وبدأ بتلحين أغانيه حين لحن طقطوقة «احلفيلي ما تسيبيني» وتانغو «بحب من غير أمل» من نظم يوسف بدروس. وكان هدف فريد الأطرش الأكثر شباباً بين زملائه العمالقة إعطاء الأغنية الرومانسية أبعاداً أكثر حداثة مما جاء به محمد القصبجي، لأن القصبجي حصر شاعريته بالمونولوغ، أما فريد الأطرش فقد أخضع الشاعرية للطقطوقة كما في أغنية «بحب من غير أمل» وأغنية «نويت أدارى آلامي» وأغنية «يا زهرة في خيالي» فتحولت الطقطوقة بفضله إلى أغنية شاعرية. وفي عمله العفوي هذا كان متمرداً – بل أكثر من متمرد- إذ وجد أن إيقاعات الموسيقى الغربية الراقصة تناسب الغناء الخفيف، وهذا الأمر هو الذي جعل محمد عبد الوهاب يقصر تلك الإيقاعات على الطقطوقة بعد أن استخدمها في القصائد والمونولوغ وبدأت ألحان فريد الأطرش تتعاقب وأخذ يزاحم العمالقة آنذاك في الأغنية القصيرة وفي الألحان المعاصرة فلحن وغنى أغنيته الشهيرة «ايمتى تعود يا حبيب الروح» على إيقاعات التانغو، و«عشك يا بلبل» و«اليوم ده يوم التقانا» على إيقاع الباسودوبل، وانفرد بغناء لحن شرقي جميل زها كوردة جورية بين الأغاني الأخرى ذات النكهة الحديثة هي طقطوقة «صدقيني» التي أطلق فيها طاقته الصوتية.
استطاع فريد الأطرش أن يرتقي بفن المونولوغ الذي جاء به القصبجي، وتشهد أعماله على شاعريته الشفافة التي أعطاها وبخاصة في مونولوغ «رجعت لك يا حبيبي» ففي هذا المونولوغ الذي غنته أسمهان ما بين عامي 1939 – 1940 يرى النقاد أنه جسد أسلوباً خاصاً به وبشخصيته الفنية. ففيه نشعر بنغمات أوتار عوده الواضح النبرات، وقدراته الفنية وألحانه الجميلة خاصة عندما غنت أسمهان عبارة: «في كل يوم يزداد حنيني إليك» وأيضاً عبارة «كان قلبي عليل ومالوهش خليل» ومطلع الأغنية الذي هو على مقام الكرد يضم أربع قفلات. وهذا الأمر كان جديداً على الملحنين آنذاك، فبعضهم اعتبره ضعفاً وبعضهم الآخر اعتبره تجديداً والأخير هو الأصح.. وذلك لأسباب من أهمها لزوم كلمات المونولوغ التي تعبر عن عودة الحبيب والعودة إلى الحبيب وفي الحالتين عبر فريد بقفلاته الموسيقية تعبيراً شاعرياً ووضع القفلات الأربع للتعبير عن كل غصن بجملةٍ موسيقية غنائية تختلف عن سابقاتها. وهذا يعتبر إبداعاً في فكره الموسيقي وتمرداً على واقعه الإبداعه الموسيقي.
أما على صعيد القصائد فقد قدم ما بين عامي 1934–1940 مجموعة من الأغاني والقصائد من بينها «ختم الصبر بعدنا بالتلاقي» «ثم يا نسمة تسري». ولم تأخذ منه القصيدة حيزاً كبيراً كما الأوبريت والمونولوغ والأغاني الشعبية، فاتهم بالتقصير في مرحلة من حياته الفنية، حتى تجرأ البعض ليقول بإنه غير قادر على تلحين القصائد، فانكب فريد على تلحين قصائد الأخطل الصغير وغيره من الشعراء بطريقة الملحن المحترف بعد أن توقف لعشرة دقائق قلبه في أحد المشافي البريطانية حيث نصحه الأطباء بترك الغناء والحفلات لأن وضعه الصحي لا يسمح بذلك، وعاد في قلبٍ ضعيف جداً ليقدم لجمهوره ومحبيه أغاني العاطفة والطرب والأناشيد الوطنية، وعلى الرغم مما كان عليه فقد لحن عش أنت، لا وعينيكي، ووردة من دمنا، وغير ذلك الكثير.
ومن تمرده أنه أدخل تجديداً في نوع التفريد الذي لم يكن سائداً في تلك الأيام تفريداً بطريقة الموال في منتصف القصيدة كما فعل في "عش أنت" ما اعتبر جديداً في غناء القصائد وحاكاه في ذلك كثر استخدموا الموال في منتصف الأغنية الشعبية، وكأنه يقول عدتُ بحلةٍ جديدة في غناء القصائد وهو الذي كان يقر بأنه لا يمكن الاستغناء عن الشعر في الغناء العربي الأصيل.
وفي الأغنية الشعبية استطاع فريد الأطرش أن يجسد شخصيته الفنية في ألحانه وبشكل خاص في الأغاني الشعبية إذ جعلها تحمل هوية خاصة به وبشخصيته ورسم معالم الأغنية الشعبية في الوطن العربي إلى درجة كبيرة حتى أن المستمع يتعرف بسهولة إلى أي أغنية من أغانيه ولا سيما تلك التي أعطاها لمطربين غيره.
أما الأوبريتات التي قدمها (الشروق والغروب، ليال الأنس، ما تقولش لحد، وغيرها الكثير) من خلال أفلامه فهي إحدى العلامات المضيئة في سجله الفني. مستفيداً من طول نفسه بجانب صوته المقتدر بما له من مسافات جيدة في قراره ووسطه وجوابه مع اتساع واضح في مساحات وطبقات حنجرته المتراوحة بين «الباريتون والباص» والمتجاوزة إلى التينور ومستذكراً لتراكمات انشغاله عند ماري منصور ثم بديعة مصابني في الثلاثينيات من القرن الماضي، فطور بذلك اللون من الغناء المسرحي فناً قائماً بذاته.
ويمكننا القول تبعاً لذلك إن فريد الأطرش هو أول من أدى هذا اللون من الغناء على الرغم من أن محمد عبد الوهاب قد سبقه إليه في «قيس وليلى» عام 1939. لكن فريداً جاء بمواصفات تقوم عليها أبعاد هذا اللون المتكئ أصلاً على الرقص والغناء الجماعي وفن الاستعراض والإلقاء المنغم والحوار التمثيلي وبأسلوب متقدم على أوبريتات كامل الخلعي عام 1914 وسيد درويش عام 1917.
وبالنسبة للغناء الوطني فيذكر الكاتب عبد الكريم عبد العزيز الجوادي «بأن فريد الأطرش لم يكن في يوم من الأيام بحاجة لأن يرفع صوته بالغناء أو يجهد نفسه في أداء أغنية وطنية أو أنشودة.. كي يكتب عنه التاريخ أن فلاناً لم يكن فقط مطرباً للعواطف أو فناناً عاش حياته الخاصة مبتعداً عن شؤون أمته وشجونها، إذ أن فريد هو من سليل عائلة كتبت بدمائها أروع ملاحم الفداء وضحت بأرواحها وأموالها في سبيل عزة وطنها وكانت على الدوام سيفاً مستلاً في وجه المحتلين.. وكانت الدماء العربية التي تجري في عروقهم وتلك الفروسية ذات المعالم الواضحة والبأس والإباء والكرم، وكل هذه العلامات المضيئة التي اهتدى بها فريد وسار على هديها، هي التي جعلت من إسهاماته المضافة في الفن رداً فورياً وتسجيلاً واقعياً ذا معالم واضحة في عطائه الممزوج بالحس المرهف والموهبة الأكيدة المتفاعلة مع مخزونه الوطني من المشاعر المتدفقة والتي وجد متنفساً لها في عمله الفني».
الملاحظ في رأي الكاتب أعلاه بأن فريد الأطرش تجاوز الوطنية إلى القومية فغنى "وردة من دمنا" للأخطل الصغير، و"إحنا لها" لأبي سعود الأبياري، و"يوم الفداء" لعبد الجليل وهبة وغيرها كثير. وكمثال على ذلك ما أورده في أوبريت "بساط الريح" إذ ردد بعد كوبليه تروح يا بساط على بغداد على بغداد بلاد خيرات بلاد أمجاد كلمة: آه يا زلم آه يا زلم.
فريد الأطرش والسينما
لم يكن فيلم «انتصار الشباب» الذي وقف فيه فريد الأطرش، أول مرة أمام الكاميرا عام 1941، عنوانا للفيلم فحسب، بل وصفاً وتجسيداً لحالة، لقد كان بالفعل انتصاراً للشباب.. فهو جواز المرور إلى أوسع مجالات الشهرة، ليس بالنسبة لفريد الأطرش فقط، ولكن لشقيقته أسمهان أيضاً.. وجاء نجاحُهُ الكبير ليعزز مسيرة المخرج الشاب حينذاك أحمد بدرخان.
في الأفلام المدرجة أدناه يطالعنا في دور المطرب القادم من سحب الرومانسية، الذي يحب بكل جوارحه، والذي يعبر عن مشاعره بوجه محدود الانفعالات وبأغان لا حصر لها. وهذه الأفلام هي: «أحلام الشباب» لكمال سليم 1942، و«شهر العسل» لبدرخان 1945، و«جمال ودلال» لاستيفان روستي 1945، و«ما قدرشي» لبدرخان 1946، و«بلبل أفندي» لحسين فوزي 1948، و»أحبك أنت» لأحمد بدرخان 1948، و«عفريته هانم» لهنري بركات عام 1949.
وليست مصادفة أن يسند القاسم الأعظم لأفلامه إما لأحمد بدرخان وإما لبركات الذي بدأ مسيرتَهُ معه في فيلم «حبيب العمر» 1947، حتى «نغم في حياتي» 1974، مروراً بـ «ما تقولش لحد» 1951 و«لحن الخلود» 1952 و«رسالة غرام» 1954 و«قصة حبي» 1955 وأزاي أنساك 1956 و«ما ليش غيرك» 1958.
ولكم تندهش، وتتساءل: كيف يشتري فريد وبركات قصة «دعاء الكروان» لطه حسين دون أن يعلما شيئاً عنها؟ على أن الأهم هو ذلك الإصرار من قبل فريد الأطرش، على أن تبقى صورتُهُ كعاشق معذب ولهان، هي الصورة الأبدية له. وهي الصورة التي فرضها حتى على مخرجين في قامة يوسف شاهين، الذي أخرج له «ودعت حبك» 1956، «وأنت حبيبي» 1957، أو صلاح أبو سيف الذي قدم له «رسالة من امرأة مجهولة» 1966، أو كمال الشيخ الذي أخرج له «من أجل حبي» 1959. وهذه الأفلام تنتمي لفريد الأطرش أكثر من انتمائها إلى المخرجين الكبار الثلاثة. وإذا كان فريد، في أعماله الأولى، يعبر عن نوع من طموح الفنان الذي يريد أن يثبت ذاته، ويقدم «أوبريتاته» الجديدة، فإنه، بعدما تقدمت به السنوات، وأصبح شهيراً، وبدأت التجاعيد تزحف حول رقبته وتحت عينيه، اندمج في دور «العبقري» الوحيد، الذي يعاني أحزاناً لا تنتهي. وها هو يغرف من آلامه، المجهولة المصدر، كما في «حكاية العمر كله» لحلمي حليم 1964، حيث تقف فاتن حمامة، إلى جانبه، وتهبه قلبها كاملاً.. أو في «الخروج من الجنة» لمحمود ذو الفقار 1967.
تمتع فريد الأطرش بصوت حنون، دافئ، يمتلئ بالشجن، وحافظ في ألحانه على طابعه الشخصي القوي، المستقل، والأهم أنه في العديد من «أوبريتاته» داخل الأفلام حافظ وأكد على شرقية الغناء العربي المصري، وشرقية الغناء العربي الشامي، وشرقية الغناء العربي التونسي، وشرقية الغناء العربي العراقي والمغربي والسوداني واللبناني، وعلى نحو جعل الجمهور العربي، في كل مكان، يحتفي به، وبفنه، احتفاء عظيماً. وأبرز مثال على ذلك استعراض «بساط الريح»، في «آخر كذبة» لأحمد بدرخان 1950.
وفريد الأطرش هو مغني ألحانه عدا القليل الذي أعطاه للمطربات والمطربين الذين ظهروا في أفلامه، أو لم يظهروا.. كوديع الصافي ومحرم فؤاد وفهد بلان وهو كما أسلفنا أول من استخدم أسلوب الموال في العرض الصوتي في الأغنية، وعنه أخذ المطربون والملحنون الآخرون وفي مقدمتهم محمد عبد المطلب ومحمد عبد الوهاب. وهو بحق سيد الأغنية وصاحب شخصية لحنية واضحة، لم يحاول أن يقلد أحداً، أو يتبع أسلوب أحد، ومن هنا جاءت شهرته.
احتل فريد قائمة الإيرادات الضخمة من جمعية المؤلفين والملحنين في باريس، وقد أصدرت مايا كازابيانكا كتاباً عن علاقتها بفريد وغنت له بالفرنسية «يا جميل يا جميل» وطعمت غناءها بالكلمات العربية، وقد علق فريد على هذه النجاحات بقوله: «ما حدث لي هو انتصار للموسيقى الشرقية على وجه العموم، فإن من أمنياتي أن تغزو الموسيقى الشرقية العالم، وهي لن تستطيع إلى ذلك سبيلاً إلا إذا حافظت على قواعدها الأصلية وأصالتها العريقة. ولذا فإننا إذا أردنا لموسيقانا أن تتجاوز الحدود فلا بد أن نذهب بها إلى الشعوب وفيها روح الشرق وعبير الشرق. ولهذا فأنا ضد الاقتباس. وأعترف أنني شغفت أكثر من مرة في حياتي واقتبست. ثم تبت إلى الله حتى لا أسهم في عملية قتل موسيقانا العربية الشرقية الأصيلة».
إبداع فريد لم يتوقف عند حدود أوروبا الغربية بل تعداها إلى روسيا من وراء أغنية «يا زهرة في خيالي» التي غناها مغنٍ روسي ثم «وياك.. وياك» التي انتشرت في تركيا قبل أن تلحق بها «زنوبة.. ويا جميل» التي غنتها المطربة الفرنسية داليدا. وما زالت إلى اليوم تغنى في تركيا وألمانيا وانجلترا وفرنسا.
رحل الموسيقار فريد الأطرش عن محبي فنه عند الساعة الرابعة من مساء يوم الخميس في السادس والعشرين من شهر كانون الأول / ديسمبر 1974 ، ليكون أحد العلامات الهامة في صفحات التاريخ العربي الفني المتجدد.
0 تعليق على موضوع : التمرد الإبداعي والفني .. فريد الأطرش أنموذجاً
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات