يقول القصبجي:
«أول مرة سمعت فيها صوت أم كلثوم ولم أكن أعرفها من قبل كان في أواخر عام 1923، عندما كانت تغني في مسرح «تياترو بايلوت باسك» (برنتانيا سابقا)، قصائد في مدح الرسول، وطقطوقة لإبراهيم فوزي مطلعها:
(في غرامك ياما شفت عجايب).
كانت أم كلثوم خلال هذه الفترة، ترتدي العقال، وتنشد قصائد في مدح الرسول مثال: «مولاي كتبت رحمة الناس عليك» (ألحان زكريا أحمد)، وكانت تتميز بحلاوة الصوت ورقة الأداء.
أعجب القصبجي بصوت أم كلثوم، وأسلوب أدائها، وتمني أن يلحن لهذه المطربة الصاعدة، صاحبة الحنجرة الذهبية التي بمكنتها أداء الغناء الكلاسيكي، هذا الفن الذي شب عليه القصبجي في طفولته وشبابه، والذي افتقده مع أصوات العوالم.
ويستطرد القصبجي حديثه بقوله:
«وبعد سنة، أي عام 1924، جاءت أم كلثوم إلي القاهرة لتقيم بها بصفة نهائية. واتخذت لها مسكنا في شارع قولة بعابدين.
تعرفت عليها عن طريق صديق لوالدي، متعهد حفلات الغناء «الشيخ محمد أبو زيد». الذي صحبني لأسمعها، فزاد إعجابي بصوتها. وصعدت إلي خشبة المسرح لأري عن قرب صاحبة هذا الصوت الجميل، وحييتها فردت التحية، دون أن تعرف من أنا!!
ذاع صيتها، وبدأت شركات الأسطوانات تتعاقد معها علي تسجيل بعض أغانيها، وكان ذلك عام 1924، وكنت في هذا الوقت ألحن لجميع شركات الأسطوانات، ومن بينها شركة أوديون، التي كانت أم كلثوم تسجل فيها بعض أدوارها.. وكان معظم هذه التسجيلات من ألحان الطبيب الدكتور «صبري النجريدي" الموسيقي الهاوي. ومن بين الأدوار التي سجلتها أم كلثوم:
«أنا علي كيفك»، «الفل والياسمين والورد»، «مالي فتنت»، «يا كروان والنبي سلم» و «الأمر أمرك» وغيرها وكلها من ألحان الدكتور النجريدي. ومن بين ما سجلت أم كلثوم من أغان في هذا الوقت، أغنية من تلحيني، دون أن تعرف اسم الملحن، وهي طقطوقة «آل إيه حلف ما يكلمنيش»، وكنت قد لحنتها لتغنيها السيدة «نعيمة المصرية».
شعر السيد «ألبير ليفي» مدير شركة أوديون، بأن الأمور سوف تتعقد، اذا أخفي عليها شخصية الملحن، فصحبني إلي منزلها، وقام بتعريفي إليها قائلا:
الشيخ محمد القصبجي صاحب لحن «آل إيه حلف».
وكانت أم كلثوم في أدائها للأغنية تخرج عن الأصل الملحن، فأسمعتها اللحن كما كتبته، وأعدنا تسجيله مرة أخري. ومنذ هذا اليوم بدأت علاقتي الفنية مع هذه الفنانة، وأعطيتها من ألحاني:
أنا عندي أمل تنسي اللي حصل (مقام البياتي)
وم السنة للسنة يا حلو لما انظرك (مقام عجم).
وفي هذه الفترة أيضا تعرفت علي الشاعر أحمد رامي.. الذي ألف لأم كلثوم كلمات أغان قمت أنا بتلحينها منها:
إن حالي في هواها عجب أي عجب
يا ريتني كنت النسيم
ولحد امتي حتداري حبك
صدق وحبك مين يقول
أيقظت في عواطفي وخيالي
أخذت صوتك من روحي
صحيح خصامك والا هزار
متنا في حبك يا نور العين وجينا
باحبك وانت مش داري
قلبك غدر بي ورماني
ولاقت كل هذه الأغاني نجاحا كبيرا، كما تم تسجيلها علي أسطوانات».
ومنذ أن قام القصبجي بتلحين أغاني أم كلثوم ارتفع أجره، وأصبح يتقاضي خمسة عشر جنيها، بدلا من ثمانية علي اللحن الواحد. كما بدأت شركات الأسطوانات تعامله معاملة الفنانين الكبار، أمثال داود حسني، وإبراهيم القباني، وزكريا أحمد.
كان القصبجي سعيدا بهذا النجاح، وبدأ يعيش مع أحلامه الفنية.. إلي أن جاء ما يعكر صفو حياته، مرض والده، الذي توفي في أغسطس عام 1924. ومع هذا الحدث المؤلم، زادت أعباؤه المالية، فبدأ إلي جانب عمله الفني، رعاية شقيقاته وأسرهن.
استطاع محمد القصبجي إقناع أم كلثوم بالغناء بمصاحبة التخت، حتي تخرج من كونها مجرد منشدة تنشد المدائح النبوية والقصائد، وتدخل مجال الغناء المصاحب بالآلات الموسيقية، كما هو متبع في غناء العاصمة (القاهرة) مع كبار المطربين والمطربات.
وكون القصبجي لأم كلثوم أول تخت موسيقي (فرقة موسيقية صغيرة) تصاحبها في الغناء وكان هذا التخت يضم أعلام العازفين آنذاك:
محمد العقاد (قانون) سامي الشوا (كمان) محمد القصبجي (عود) محمود رحمي (رق). وخالد إبراهيم (مذهبجي).
(كانت أم كلثوم في بداية عملها بالقاهرة، تصر علي وجود أخيها خالد في فرقتها، حتي ترضي والدها، كما كان وجوده إلي جانبها يشعرها دائما بالاطمئنان).
كان القصبجي أول عواد ثابت يشارك في تخت المطربة الصاعدة أم كلثوم، فقد كان المتبع أن يشارك ملحن الأغنية المؤداة في تخت المطرب أو المطربة، بينما يثبت عازفو الآلات الأخري.
وكادت فكرة اشتراك القصبجي في تخت أم كلثوم تفشل، بسبب طلبه الدائم لزيادة الأجر، غير أن موهبة هذا الفنان الكبيرة في التلحين، واستفادة أم كلثوم من علمه الغزير في الموسيقي والغناء حيث كان أستاذا لها تعلمت منه الكثير إلي جانب تقديمه لها الجديد من الألحان، التي كانت تميزها عن بقية المطربات، كل هذه الأسباب جعلتها تتقرب إليه، وتقوي صلتها به، وتتحمل إلحاحه الدائم بزيادة أجره.
قامت علاقة أخوية جميلة بين أم كلثوم والقصبجي، جعلها لا تفارقه في كل خطواتها الفنية والخاصة، واستمرت هذه العلاقة حتي آخر يوم من حياة القصبجي.
واختار القصبجي لأم كلثوم مسرح «دار التمثيل العربي» لتقدم فيه حفلاتها الغنائية، بدلا من الصالات العادية.. مثال «البوسفور» و«سانتي»، وهو المسرح الذي كانت منيرة المهدية تقدم حفلاتها عليه.
خشي مدير المسرح من غضب سلطانة الطرب منيرة المهدية، التي كانت تتربع علي عرش الغناء، إذا ما سمح لأم كلثوم بالغناء في مسرحه. فقد كانت أم كلثوم تعد المنافسة الأولي لها، غير أن القصبجي استطاع بأسلوبه إقناع مدير المسرح بتوقيع العقد.. ووقعت أم كلثوم عقدا طويل المدي وأقامت حفلاتها في هذا المسرح.
ومنذ عام 1926 وحفلات أم كلثوم تستقطب الجمهور، رغم ظهور حملات صحفية مغرضة، قامت بها منيرة المهدية عندما شعرت بخطر يهدد مكانتها الفنية.
زاد دخل القصبجي بعد انتشار أعماله لصوت أم كلثوم، وأقبل المطربون والمطربات علي ألحانه. وأحس أن منزله بميدان باب الخلق، أصبح لا يليق بمكانته الفنية، فاشتري منزلا مكونا من أربعة طوابق بشارع الخليج المصري بمبلغ ألف ومائة جنيه.. جمع فيه أسرته، وعاش فيه حتي آخر يوم من حياته.
0 تعليق على موضوع : محمد القصبجي وأم كلثوم - الموسيقار العاشق
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات