ام كلثوم تغني حب إيه لبليغ حمدي فيترك كلية الحقوق‏..‏ ويتفرغ للتلحين

حكايات فنية
يكتبها‏:‏ مصطفي الضمراني

محمد فوزي يرشحه لأم كلثوم في أغنية‏..‏ فتغني له ثلاث أغنيات أخري
كيف فتح الحظ أبوابه لعبد الوهاب محمد؟‏!‏

لم يخطر ببال بليغ حمدي الطالب بحقوق القاهرة أن هوايته في التلحين وتردده علي حديقة معهد الموسيقي بشارع رمسيس ومقابلاته اليومية مع كبار الملحنين والمؤلفين والمطربين ستصنع منه ملحنا كبيرا أو حتي مجرد عازف في فرقة موسيقية‏,‏ فهناك عشرات الهواة من الشباب الذين يترددون علي هذا المعهد مثله‏,‏ و الذين يعشقون هواية التلحين أو يدرسون بعض الآلات الموسيقية ويتدربون عليها ويتخصصون فيها مثل آلات العود والكمان والقانون وغيرها‏...‏ وكثيرا ما كان ينصحه شقيقه مرسي سعد الدين وشقيقته صفية حمدي بالابتعاد عن هذه الهواية وضياع وقته في التردد علي المعهد وعدم اهتمامه بدراسته في كلية الحقوق التي رسب فيها أكثر من مرة‏,‏ وكان انشغاله سببا في أن يتحول من طالب منتظم بالكلية إلي طالب منتسب بعد أن تعثر أكثر من مرة في السنة الثانية‏,‏ وحذراه حتي لا تكون هوايته الموسيقية سببا في ترك الكلية أو فصله منها بعد تجاوز مرات الرسوب‏..‏ لكنه لم يعر أي اهتمام بهذه النصائح منهما‏,‏ أو من بعض زملائه بالكلية‏,‏ وأصبح بليغ واحدا من أكثر المترددين علي المعهد يوميا ولا يغيب عنه طوال أيام الأسبوع‏,‏ وكانت علاقته وثيقة مع الشاب إبراهيم خالد ابن شقيقة أم كلثوم الذي كان يجلس إلي جواره ويحفظ منه بعض ألحانه ويرددها معه علي آلة العود‏,‏ عله يجد اليوم الذي يلمع فيه اسمه كمطرب مثل المطربين الآخرين‏,‏ لكن متي يحدث ذلك لا أحد يعرف‏,‏ وتمر الأيام والأشهر إلي أن يتعرف بليغ إلي الفنان محمد فوزي صاحب شركة مصرفون التي تسجل وتنتج أغاني أم كلثوم وتطرحها للبيع في الأسواق علي أسطوانات‏,‏ ويستمع في إحدي الجلسات بالمعهد إلي ألحان بليغ وإلي لحن جديد كان قد أبدعه ليغنيه عبدالحليم حافظ بعنوان تخونوه وعمره ماخانكم‏..‏

تبيعوه وعمره ما باعكم وكان هذا اللحن سكة جديدة في التلحين وأسلوبا مختلفا عن الألحان السائدة في ذلك الوقت‏,‏ إذ كان مثار إعجاب عدد كبير من الملحنين والموسيقيين من أمثال محمد الموجي وميشيل المصري وعبدالعظيم محمد وفؤاد حلمي وغيرهم‏,‏ وكان محمد فوزي يجلس دائما إلي جانب بليغ يسمع منه بعض ألحانه الأخري أيضا‏,‏ وعرض عليه أن يعرفه علي سيدة الغناء العربي أم كلثوم‏,‏ لكن بليغ خاف من هذه المقابلة‏,‏ اعتقادا بأن طموحه لم يصل به كملحن ناشئ لكي يلتقي بأم كلثوم أو حتي يجلس إلي جوارها‏,‏ ورفض بليغ هذا المشروع في ذلك الوقت‏,‏ مفضلا أن يبدأ رحلته مع مطربين ومطربات الدرجة الثانية‏,‏ خصوصا أنه كان يتابع تعامل أم كلثوم مع كبارالملحنين مثل رياض السنباطي وزكريا أحمد وغيرهما‏.‏ واستمر بليغ في تردده علي معهد الموسيقي وقناعته التامة بلقاء بعض المطربين والمطربات الأقل من حيث الشهرة والمجد الغنائي من أم كلثوم‏,‏ واستمرت علاقته بالشاب إبراهيم خالد تتوثق إلي أن دعاه ذات يوم لزيارته في فيلا خالته أم كلثوم بالزمالك‏,‏ وخشي بليغ كثيرا من هذه الزيارة حتي لا تكون سببا في إزعاج سيدة الغناء أو دخول فيلتها بدون إذن منها‏,‏ لكن خالد طمأنه بأن زيارته لا تكون فيها أي إحراج أو إزعاج‏,‏ فهي ربما تكون نائمة في ذلك الوقت أو تختلي بنفسها لحفظ لحن جديد تنشغل به للموسيقار الكبير رياض السنباطي‏,‏ وكان محمد فوزي قد تحدث مع أم كلثوم كثيرا عن بليغ وأهمية أن تتعرف إليه كمبدع جديد له إبداعاته اللحنية‏,‏ وأنه يفضله علي نفسه كملحن يمكن أن تتعامل معه أم كلثوم‏,‏ لدرجة أن أم كلثوم بدأت تفكر كثيرا في هذاالشاب الملحن الذي يرشحه فوزي لها ويفضله علي نفسه‏,‏ لكنها كانت تقول سيأتي الوقت وربما تلتقي به عند وجود مناسبة‏,‏ ولم تكن متحمسة لهذا الترشيح لانشغالها بألحانها الجديدة واستعداداتها للموسم الغنائي‏.‏

بليغ في فيلا أم كلثوم
ويذهب بليغ حسب موعده مع إبراهيم خالد إلي فيلا أم كلثوم بالزمالك ومعه عوده‏,‏ ويعرف من البواب أن خالد في انتظاره ويجلس معه في الصالون وبعد أن تناولا معا شاي المساء بدأ بليغ يغني علي العود بعض ألحانه التي كان قد لحنها‏,‏ وكانت منها أغنية حب أيه اللي إنت جاي تقول عليه واندمج بليغ في الغناء والعزف علي العود دون أن يخطر بباله أن أم كلثوم ستسمعه ويلتقي بها‏,‏ ويزداد اندماج بليغ في الغناء‏,‏ ويغني معه خالد‏,‏ وإذا بأم كلثوم تستمع في الغرفة المجاورة إلي صوت وأداء بليغ في هذه الأغنية وتجلس بعيدا دون أن يراها أو تشعره بأنها تتابع ما يغنيه‏,‏ ويشد انتباه أم كلثوم مذهب الأغنية وأداء بليغ وحلاوة اللحن وتغنيه معه عن بعد دون أن يعلم بذلك
حب إيه اللي إنت جاي تقول عليه
إنت عارف قبله معني الحب ايه
إنت ما بينك وبين الحب دنيا
دنيا ما تطولها ولا حتي في خيالك
إلي أن يصل بليغ إلي الكوبليه الذي يقول
كنت باخلص لك في حبي من كل قلبي
وإنت بتخون الوداد من كل قلبك
بعت قلبي‏..‏ بعت ودي‏..‏ بعتي حبي
بعتني وفاكرني ليه‏..‏ أشتاق لقربك ليه
إنت فين والحب فين‏..‏ ظالمه ليه دايما معاك
إنت لو حبيت يومين‏..‏ كان هواك خلاك ملاك

ويشتد إعجاب أم كلثوم بلحن وكلمات الأغنية‏,‏ وبعد أن تركت بليغ لفترة طويلة يغني الأغنية دون أن يراها أو تشغله عن أداء اللحن‏,‏ لم يكن أمامها بعد هذا الانتظار الطويل سوي أن تدخل الصالون من خلفهما وبليغ مندمج في الأداء‏,‏ وإذا بشخص يربت علي كتفه أثناء الغناء‏,‏ ويلفت بليغ فيجد أم كلثوم‏,‏ ويقف مفزوعا وفي غاية الرهبة من الموقف ويقول‏:‏ أهلا ياست‏..‏ وتقول له أهلا‏,‏ اجلس يابليغ أنا سمعتك كويس وتهدئ من روعه وتطلب له شايا آخر وتطمأنه بأنه هايل‏,‏ واللحن جميل‏,‏ وتدعوه إلي أن يغنيه من الأول‏,‏ وفي ذهنها ما كان قد قاله محمد فوزي عن بليغ وأنه يفضله علي نفسه كملحن لأم كلثوم‏,‏ ويعيد بليغ أداء اللحن من البداية‏,‏ وتغني معه أم كلثوم المذهب‏,‏ وتندمج أكثر في فقرة إنت فين والحب فين‏..‏ ظالمه ليه دايما معاك‏..‏ إنت لو حبيت يومين كان هواك خلاك ملاك‏,‏ وتقول لبليغ إيه الكلام الحو ده‏,‏ وتطلب من بليغ نسخة من كلام الأغنية وتسأل مين المؤلف فيقول لها إنه مؤلف جديد اسمه عبدالوهاب محمد‏,‏ وتطلب من بليغ بعد أن أمضيا وقتا طويلا في الغناء معا أن تعود غدا في نفس الموعد ومعه عبدالوهاب محمد والأغنية كاملة‏.‏

عبدالوهاب محمد في فيلا أم كلثوم
ولم يصدق عبدالوهاب محمد ما قاله بليغ حمدي بضرورة أن يقابله في فيلا أم كلثوم في الثامنة مساء‏,‏ وهو منتظره هناك‏,‏ فقال له عبدالوهاب وهو في قمة سعادته‏:‏ معقول يابليغ أم كلثوم مرة واحدة‏,‏ أنا ما أقدرش أروح الفيلا لوحدي‏,‏ إيدك علي إيدي أروح معاك‏,‏ أنا مش مصدق يابليغ‏,‏ وبالفعل تقابل الاثنان أمام معهد الموسيقي العربية واستقلا تاكسي إلي فيلا أم كلثوم التي تري عبدالوهاب محمد لأول مرة‏,‏ ودخلا الفيلا‏,‏ حيث كانت في انتظار وصولهما‏,‏ وفور أن جلس عبدالوهاب في الصالون والرهبة تسيطر علي عقله وقلبه‏,‏ ويكاد يرتعد من جلال الموقف‏,‏ وإذا بأم كلثوم تدخل وترحب بهما وتسأله مشيرة إلي عبدالوهاب‏,‏ إنت عبدالوهاب محمد؟ ويرد نعم ياست‏..‏ فتقول‏:‏ إنت شاعر كويس وسيكون لك شأن عظيم‏,‏ فين باقي كلام الأغنية؟ يقرأه عبدالوهاب من الأجندة التي كانت معه‏,‏ وكان قد كتب الأغنية علي الآلة الكاتبة‏,‏ وتقول أم كلثوم في كل مقطع منها‏:‏ الله الله‏,‏ وعندما ينتهي عبدالوهاب من قراءتها من النوتة أو الأجندة اللي معاه قالت اكتبها لي لوحدها‏,‏ فقال عبدالوهاب إنه كاتبها لوحدها اتفضلي ياست‏,‏ وبدأت أم كلثوم تقرأ حب إيه مرة تانية‏,‏ وعلي الفور اتصلت بقائد فرقتها الموسيقية عازف آلة القانون الأول في المنطقة العربية محمد عبده صالح لحضور هذا اللقاء‏,‏ وكان منزله قريبا من فيلا أم كلثوم‏,‏ وفي حدود ربع ساعة كان موجودا‏,‏ وقال صالح‏:‏ أهلا يابليغ أهلا ياعبدالوهاب‏,‏ وردت أم كلثوم هو إنت تعرف عبدالوهاب قال أيوه‏,‏ أنا باشوفه في معهد الموسيقي‏,‏ وطلبت من عبده صالح الاتفاق مع بليغ غدا لكتابة النوتة الموسيقية للحن أغنية حب إيه استعدادا لتسجيلها‏,‏ وطلبت أم كلثوم أن يغني الأغنية من جديد بصوته أمام عبده صالح‏,‏ فغناها بليغ وكان إعجاب صالح بها فوق كل تصور‏,‏ وقال لأم كلثوم مبروك ياست‏,‏ دي المفاجأة التي نفتتح بها الموسم الجديد في نوفمبر‏61,‏ وفي اليوم التالي حسب الاتفاق كان بليغ في منزل محمد عبده صالح وأحد الموسيقيين المتخصصين في كتابة النوتة الموسيقية‏,‏ حيث استغرقت الكتابة من الثامنة مساء حتي منتصف الليل‏,‏ ليخرج بليغ ويعود إلي منزله بعد أن ودعه عبده صالح الذي فاجأ بليغ في ثالث يوم من المقابلة بأن موعد البروفة غدا في استديو مصرفون بالعتبة‏,‏ وبحضور مهندس الصوت والفنان القدير محمد فوزي الذي فوجئ بموعد البروفة‏,‏ وكان سعيدا للغاية‏,‏ وكان معه المهندس سعيد المصري المتخصص في تسجيلات أغاني أم كلثوم‏,‏ وما إن جلست الفرقة في الاستديو وبدأت عزف مقدمة الأغنية ومعهم بليغ حمدي الذي حضر قبل الفرقة بنصف ساعة والشاعر عبدالوهاب محمد ليجلس الثلاثة‏,‏ المهندس وعبدالوهاب ومحمد فوزي في الكابينة‏,‏ وتدخل أم كلثوم الاستديو لإجراء البروفة‏,‏ فتسلم علي الجميع‏,‏ ويقول لها محمد فوزي‏:‏ فاكره ياست لما وصيتك علي بليغ‏,‏ فضحكت الست وقال معك حق‏,‏ ده عامل لحن يجنن‏,‏ وسيكون مفاجأة الموسم‏,‏ وطلبت من فوزي ومهندس الصوت عدم إبلاغ أي صحفي بالبروفة‏,‏ وعزفت الفرقة اللحن‏,‏ وغنت أم كلثوم وهي في أكثر حالاتها سعادة وفرحا بالأغنية كلمات ولحنا‏,‏ وعادت أم كلثوم إلي فيلتها لتأتي في اليوم التالي واستمرت البروفات أسبوعين يوميا في استديو مصرفون ليكون الخبر قد تسرب إلي الصحفيين‏,‏ ونشرت الصحف أن أم كلثوم ستقدم ملحنا وشاعرا جديدين في موسمها الغنائي الجديد‏,‏ دون أن تذكر اسم الشاعر أو الملحن‏,‏ ولا حتي الأغنية الجديدة‏.‏

الحظ يفتح الباب لعبدالوهاب محمد
ويأتي موعد الحفل في الخميس الأول من نوفمبر‏61,‏ وتغني أم كلثوم حب إيه التي كان الراحل كمال الملاخ قد انفرد بكلماتها قبل الحفل بثلاثة أيام بعد أن أخذه من أم كلثوم نفسها‏,‏ لأنها منعت المؤلف والملحن من تسريب أي خبر للصحافة‏,‏ واكتظ مسرح سينما قصر النيل بعشاق فن أم كلثوم من مصر وجميع الأقطار العربية‏,‏ وبدأ جلال معوض بعد فتح الستار في قراءة الأغنية التي استقبلها الجمهور بكل الحب والإعجاب‏,‏ وغنت أم كلثوم مذهب الأغنية الذي طلب الجمهور إعادته مرتين‏,‏ ونفس الشئ بالنسبة للكوبليه الأخير‏,‏ وحققت الأغنية نجاحا منقطع النظير‏,‏ ولمع اسم بليغ حمدي وعبدالوهاب محمد في سماء الأغنية العربية‏,‏ حيث وزعت الأغنية أرقاما خيالية في مبيعاتها داخل مصر‏,‏ وفي جميع الأقطار العربية‏,‏ أما المفاجأة غير المتوقعة فكانت في ضياع أجندة عبدالوهاب محمد بما تضمه من أغنيات هي كل إنتاجه‏,‏ وبحث عنها في جميع الأماكن التي زارها‏,‏ وكان في غاية الحزن‏,‏ ومضي عليه أكثر من أسبوعين في البحث عنها دون أن يتطرق ذهنه إلي أنه نسيها في صالون فيلا أم كلثوم من شدة رهبة الموقف بالنسبة له‏,‏ ووضعها السوفرجي علي ترابيزة صغيرة بجوار الصالون وكان اليأس قد بلغ أشده عند عبدالوهاب محمد في العثور عليها‏,‏ وفجأة جلست أم كلثوم في الصالون ووقع نظرها علي هذه الأجندة‏,‏ فطلبت من السوفرجي إحضارها وفتحها‏,‏ واكتشفت أن عبدالوهاب محمد نسيها وجلست أم كلثوم في سرير نومها في المساء تقرأ بعض أغانيها التي أعجبت بها كل الإعجاب‏,‏ واختارت منها ثلاث أغنيات شدت انتباهها‏,‏ وقررت أن تغنيها في المواسم المقبلة‏,‏ وكانت الأولي‏,‏ أنا وانت ظلمنا الحب بإيدينا التي لحنها بليغ حمدي أيضا‏,‏ والثانية ح اسيبك للزمن التي لحنها رياض السنباطي‏,‏ والثالثة للصبر حدود التي لحنها محمد الموجي‏,‏ وهكذا فتح الحظ كل أبوابه لعبدالوهاب محمد عندما أبلغته أم كلثوم بأنها وجدت أجندة أغانيه في فيلتها واختارت منها ثلاث أغنيات‏,‏ وسالت دموع عبدالوهاب علي خديه من شدة الفرح ليحكي لزوجته وأولاده ما حدث‏

المصدر : الأهرام العربى السبت 1 / 11 / 2008