ولد أبو القاسم الشابي يوم الاربعاء الثالث من شهر صفر سنة 1327هـ الرابع والعشرين من فبراي) عام 1909م وذلك في بلدة توزر في تونس، وهو ابن محمد الشابي الذي ولد عام 1296هـ ( 1879م )، وذهب إلى مصر سنة 1319هـ(1901م) ليتلقى العلم في الجامع الأزهر. مكث محمد الشابي في مصر سبع سنوات حصل خلالها هلى إجازة الأزهر وعاد إلى تونس ليعمل في القضاء. كان الشيخ محمد الشابي رجلا تقياً يقضي يومه بين المسجد والمحكمة والمنزل، وفي هذا الجو نشأ أولاده أبو القاسم ومحمد الأمين وعبدالحميد.
أتمّ الشابي حفظ القرآن بكامله في سنّ التاسعة. ثم أخذ والده يعلّمه بنفسه أصول العربية ومبادئ العلوم الأخرى حيث حرم من الاستقرار في مدرسة واحدة بسبب تنقلات والده، عرَّض هذا أبو القاسم لضروب المناخ في القطر التونسي من حر مدينة قابس الساحلية الى برد جبال تالمة. طبع هذا التنقل نفس الشابي الغضة بآثار الحياة الاجتماعية المختلفة في تونس كما غذّى خياله بالمشاهد الطبيعية الرائعة وخزنت في ذاكرته الواعية، فلما بلغ الخامسه من عمره ارسله ابوه الى الكتّاب في قابس كما التحق في جامع الزيتونه في المحرم 1329هـ قبل أن يتم الثامنة عشر من عمره.
نزل الشابي في مدارس السكنى التحق بالكلية الزيتونية في 11 أكتوبر 1920 فلم يكن أبو القاسم راضياَ عن التعليم ولم يكن شيوخ الزيتونة راضين عن تطرفه ولا عن شعره حيث أن أبو القاسم كان قليل الميل الى دروس الزيتونة في علوم اللغة والأدب القديم والفقه والشريعة، ولكنه كون لنفسه ثقافة واسعة عربية بحتة جمعت بين التراث العربي القديم وبين روائع الأدب الحديث في مصر والعراق وسوريا والمهجر. لم يكن الشابي يعرف لغة أجنبية ولكنه بفضل مطالعاته الواسعة تمكن من استيعاب ما كانت تنشره المطابع العربية عن آداب الغرب وحضارته.
أعجب الشابي بما كان يترجم إلى العربية من الأدب الانجليزي من مثل المنفلوطي، العقاد، الصاوي وأعجب بالأدب الانجليزي والفرنسي والأمريكي من خلال التّرجمات العربيّة والمؤلّفات المعرّبة لـ"غوته" (Goethe) و"لامرتين" (La martine) و"أوسيان (Ossian). و قد تركزت بصيرته على أدب المهجر الذي أُنتج في لغتنا مباشرة فترك تأثيرا كبيرا عليه.
في آخر سنة 1345 – 1927 نال الشابي شهادة التطويع من الزيتونة وهي أرفع شهاداتها الممنوحة في ذلك الحين حيث رأى أن هذه الشهادة لن تشق له طريق الحياة إلى كسب معاشه وخصوصا أن آراءه لا تتفق وآراء شيوخ الزيتونة فآثر أن ينال شهادة مدنية فانتسب إلى كلية الحقوق التونسية.
تشكلت شخصية أبو القاسم الشابي من خلال أربعة عوامل واضحة التأثيرفي حياته وأحواله النفسية ثم في اتجاهه الفكري وفي شعره:
مرضـــــــــه: كان سببا في نشأة تشاؤمه وشدة انفعاله.
حالته المادية: تسببت في نشأة ضغوط أعباء الحياة وتكاليفها عليه فحرم كثيراً من الحرية التي كان يجب أن يتمتع بها.
مطالعاتــــــه: وهي التي طبعت نفسه وشعره بعناصر من الخيال والانفلات والنقمة حيث أدخلت على شعره شيئاً من الجدة والطرافة.
حال بلـــــــده: نظرا لما خلفه الاستعمار الفرنسي من عوامل البؤس الاجتماعي والتخلف الثقافي والضعف السياسي التي أثرت بشكل كبير عليه.
ولقد أضيفت هذه العوامل إلى عبقرية وشاعرية وشخصية هائمة مضطربة متمردة وطموحة.
كان أبو القاسم الشابي ضعيف البنية مديد القامة، وزاده المرض في إبان النمو الطبيعي نحولاً وضعفاً. كذلك كان ذكياً حاد الذهن سريع الانفعال، وكان فوق ذلك رضي الخلق بشوشاً وقنوعاً، متواضعاً خجولاً كثير التسامح في معاملة أصدقائه وخصومه، رقيق الطبع لطيفا خافت الصوت عند التحدث، قليل التكلف في حياته الخاصة والعامة. وقد كانت تعلو وجهه دائماً مسحة من الكآبة، برغم المرح الذي كان يحاول اصطناعه في جميع الأحوال والأحيان.
في فترة دراسة الحقوق أصيب الشابي بثلاث صدمات عنيفة: زواج غير موفق، حب دام ٍ، موت والده. تزوج الشابي قبل موت أبيه وذلك في عام 1928 وقبل أن يتخرج أيضاً من كلية الحقوق. حيث تم عقد قرانه سنة 1928م بينما كان حفل الزفاف في عام 1930 حيث تزوج مرضاة لوالده فقد كان متردد وكان أبوه يريد لنفسه العرق والحفيد، ثم رزق من زواجه هذا بولدين، هذه الحياة لم تستطيع أن تهب الشابي الاطمئنان الذي ينعم به الإنسان عادةً فاندفع ولم يمض عاماً واحداً على زواجه في السعي وراء سعادة موهومة في حب فتاة ظن فيها تحقيقاً لأحلامه. تلك كانت أولى السيئات التي ظهرت في حياة الشابي من أثر جبران خليل جبران. ولكن هذه الفتاة التي أحبها إبان طفولته ماتت، فأثار موتها في نفسه الأسى والنقمة على حوادث الدهر.
أحد الرواة المختصين بدراسة حياة الشابي وشعره وهو محمد الحليوي ينفي أن تكون قصيدة صلوات في هيكل الحب قد قيلت في فتاة رأس الجبل، ويقول أن الشابي استوحى هذه القصيدة من فتاة انجليزية مصورة كانت قد أقامت مدة في توزر لتصوير بعض مناظر المدينة وواحاتها على نحو ما يفعل الفنانون الأجانب فرآها الشابي فاستولى جمالها وشبابها على مشاعره إلى درجة الذهول الصوفي فرفع اليها تلك الصلوات.
حلت كارثة أخرى على الشابي في هذه الفترة وهي وفاة والده، ففي مطلع عام 1348هـ 1929م مرض الشيخ محمد الشابي مرضه الذي مات فيه وكان لايزال في زغوان ولم يكن ابو القاسم الشابي قد نال إجازة الحقوق بعد وشغل الشاب الناشء بتمريض والده فكان عبئاً ثقيلاً على كاهله الواهن من الناحية المادية والنفسية.
توفي الشيخ محمد الشابي في توزر يوم الثالث من ربيع الثاني من عام 1348 هـ الموافق الثامن من سبتمبر 1929، وبموت الوالد ألقيت عليه أعباء كبيرة ولقد زاد من هذا الثقل أن الشابي لم يشغل المناصب الحكومية فقد أتم دراسته ونال شهادة الحقوق في عام 1349هـ 1930م. ومضى زمن كان فيه حزينا مثقلاً بإعباء الحياة. ثم عاد بعد فترة من الزمن إلى وهج الحياة ويبدو أن صحته قد تحسنت آن ذاك، وعاد مقبلا على الحياة، وقد أكد ذلك في قصيدته الاعتراف.
بعد ذلك بقليل تأسست بتونس الحاضرة جمعية الشبان المسلمين فكان الشابي كاتب مجلسها أو أمين السر فيها، نظم الشابي أشعاره في مدى ثماني سنوات أو عشر. مما يلفت النظر أن الشابي ظهر فجأة كشاعر تام النضج والجدان، وهو على صغر سنه شاعر مكثر مجيد. ولقد أجمع الدارسون على الطابع الرومانسي لشعر الشابي. نشر مصطفى رجب سلسلة مقالات في مجلة الأسبوع التونسية عنوانها "الرومانتيكية والشابي" جمعها في كتاب اسماه "شاعران". وقد رأي مصطفى رجب خصائص الرومانيكية عند الشابي في: اللفظة – العبارة – الأسلوب – القالب – الدعوة إلى الطبيعة – الاستماع الى النفس – توسيع دائرة الشعر – ابتكار المواضيع – مسايرة روح الموضوع – تأثر العالم الداخلي بالعالم الخارجي – النزعة الانسانية، أغراضه محدودة في نطاقها فهي تدور في الوجدانيات وكان الشابي منذ طوره الأول جريصا على التعبير عن شعوره، فإن أغراضه الدائرة في ديوانه ارتبطت بالتأمل في الحياة الطبيعية (الغابة، العصفور، الخريف، المساء) والحياة الاجتماعية (السياسية والوطنية والأدبية) ثم موضوعات الوجدانيات (رثاء أبيه، المجد) والموضوعات النفسانية (الكآبة، الشعر، الأمومة والطفولة)، ثم الغزل والحب.
كان الشابي يعلم على أثر تخرجه في الزيتونة أو قبلها بقليل أن قلبه مريض ولكن أعراض الداء لم تظهر عليه واضحه إلا في عام 1929 وكان والده يريده أن يتزوج فلم يجد أبو القاسم للتوفيق بين رغبة والده وبين مقتضيات حالته الصحة بداً من أن يستشير طبيباً، وبناء على رأي الدكتور وإمتثالاً لرغبة والده عزم الشابي على الزواج وعقد قرانه، يقول باحدى يومياته الخميس 16-1-1930 وقد مر ببعض الضواحي: "ها هنا صبية يلعبون بين الحقول وهناك طائفة من الشباب الزيتوني والمدرسي يرتاضون في الهواء الطلق والسهل الجميل ومن لي بأن أكون مثلهم؟ ولكن أنى لي ذلك والطبيب يحظر علي ذلك لأن بقلبي ضعفاً! آه يا قلبي! أنت مبعث آلامي ومستودع أحزاني وأنت ظلمة الأسى التي تطغى على حياتي المعنوية والخارجية".
قضى الشابي صيف عام 1932 في عين دراهم مستشفياً وكان يصحبه أخوه محمد الأمين ويظهر أنه زار في ذلك الحين بلدة طبرقة برغم ما كان يعانيه من الألم، ثم أنه عاد بعد ذلك إلى توزر وفي العام التالي اصطاف في المشروحة إحدى ضواحي مدينة سوق أهراس من أرض الجزائر وهي منطقة مرتفعة شبه جبلية تشرف على مساحات مترامية وفيها من المناظر الخلابة ومن البساتين ما يجعلها متعة الحياة وقد شهد الشابي بنفسه بذلك ومع مجيء الخريف عاد الشابي إلى تونس ليأخذ طريقه منها إلى توزر لقضاء الشتاء فيها. غير أن هذا التنقل بين المصايف والمشاتي لم يجد نفعاً فقد ساءت حاله في آخر عام 1933 واشتدت عليه الآلام فاضطر إلى ملازمة الفراش مدة. حتى إذا مر الشتاء ببرده وجاء الربيع ذهب الشابي إلى الحامة (حامة توزر) طالباً الراحة والشفاء من مرضه المجهول وحظر الأطباء عليه الاشتغال بالكتابة والمطالعة. وأخيراً أعيا الداء على التمريض المنزلي في الآفاق فغادر الشابي توزر إلى العاصمة في 26 أغسطس 1934م ولكن حالته ظلت تسوء وظل مرضه عند جميع الناس مجهولاً، ثم دخل مستشفى الطليان في العاصمة التونسية في اليوم الثالث من شهر أكتوبر قبل وفاته بستة أيام، ويظهر من سجل المستشفى أن أبو القاسم الشابي كان مصاباً بمرض القلب،
استطاع أبو القاسم الشابي أن يصارع مرضه بإرادة قوية فشبهه النقاد بأسطورة برومثيوس الذي سرق النار من الآلهة فعاقبه الإله زيوس بأن كبَّله إلى أصفاد وجعل النسر يأكل كبده الذي يتجدد باستمرار
خلَّف الشابي أعمالا مطبوعة تمثلت في: الخيال الشعري عند العرب، أغاني الحياة ( ديوان)، قصائد نشرت في الجرائد والمجلات وفي كتب الدراسات، مقالات ومحاضرات ويوميات (مذكرات) نشرت في الجرائد والمجلات وفي كتب الدراسات، بعض رسائله، بعض مذكراته. كما ترك بعض الأعمال في صورة مخطوطات: جميل بثينة (قصه)، المقبرة (رواية)، صفحات دامية (قصة)، السكير (مسرحية)، بجانب مجموعة مقالات ومحاضرات.أما أشهر قصائده فهي: صلوات في هيكل الحب، إرادة الحياة، الساحرة، أنا أبكيك للحب، إعتراف، إلى الشعب، أحلام شاعر، تونس الجميلة، إلى طغاة العالم، نشيد الجبار. من العمال التي تناولت سيرة الشابي واعماله: الشابي وتجربة "الفجر الجديد" للشاذلي القليبي، ميلاد الشابي لأبي القاسم محمد كرو، كيف ندرس الشابي للدكتور محمد فريد غازي، الشعب في شعر أبي القاسم الشابي لمحمد العروسي المطوي.
توفي أبو القاسم الشابي في المستشفى في التاسع من أكتوبر من عام 1934 فجراً في الساعة الرابعة من صباح يوم الأثنين الموافق لليوم الأول من رجب سنة 1353هـ، حيث نقل جثمان الشابي في منتصف اليوم الذي توفي فيه إلى توزر ودفن فيها.
0 تعليق على موضوع : الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي 1909 - 1934 - لمن لا يعرفه
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات