أحمد بن محمد آغا القباني (1833-1903) رائد الفنون في سورية ومؤسس المسرح الغنائي في الوطن العربي. لعب دوراً ريادياً في تأسيس المسرح الدمشقي خلال النصف الثاني من القرن العشرين وأثر كثيراً بالفن المصري من خلال سنوات عمله في القاهرة.
البداية
ولِد أحمد أبو خليل القباني في حيّ الشاغور بدمشق سنة 1833 وتلقى علوماً دينية في صغره وعند ختمه القرآن الكريم، زار مفتي دمشق الشّيخ محمود الحمزاوي دار القباني في حيّ مئذنة الشحم لتهنئة والده على هذا الإنجاز، مُتمنياً على القباني الفتى أن يسلك طريق العِلم أو أن يصبح تاجراً مثل مُعظم أفراد أسرته.
ولكن ميوله الفنية كانت قد بدأت تظهر من خلال زياراته السريّة والمتكررة إلى مقهى العمارة، حيث كان يشاهد عروض “كراكوز وعيواظ” (خيال الظلّ) التي كانت رائجة في دمشق يومها، كونها وسيلة الترفيه الوحيدة المتاحة أمام الناس.
عندما وصل هذا الخبر إلى مسامع شيوخه، غضبوا منه وطردوه من حلقات التدريس في الجامع الأموي، بحجة أنه قد أصبح من رواد المقاهي، وأن من يسلك هذا الطريق لا مكان له في عالم المساجد. وفي أحد الأيام، دخل والده إلى غرفته فوجده يمارس التمثيل أمام المرآة، أو “التشخيص” كما كان أهل الشّام يسمونها، فقام بطرده من المنزل وقطع المصروف عنه.
طريق الفن
قرر القباني أن يمتهن التمثيل والغناء والتأليف المسرحي، ضارباً بعرض الحائط كل ما سيُقال عنه في مجتمع دمشق المحافظ. استأجر محلاً لوزن القبّان، وصار يصرف من عائداته على تطوير موهبته، وعرف من يومها بلقب “القباني،” عِلماً أن أفراد الأسرة من قبله كانوا يعرفون باسمهم الأصلي: آل أق بيق.
لقي دعماً من والي الشّام صبحي باشا، الذي كان قد حضر عروض المسرح الفرنسي في اسطنبول وأعجب بهذا الفن، فقرر أن يتبناه ويشجعه في دمشق عند تعيينه حاكماً عليها عام 1871. كانت أولى عروض القباني المدعومة من الوالي مسرحية قصيرة قُدمت في خان العصرونية ذلك العام، وانتقل مسرحه بعدها إلى سجن مهجور في محلّة القنوات، ثم إلى خان الجمرك، بين سوق الحرير وباب البريد.
القباني في زمن مدحت باشا
بعد سبع سنوات، حصل القباني على دعم إضافي من الوالي مدحت باشا، فقام بتأسيس مسرح صيفي لفرقته، كان مقره في حيّ باب توما المسيحي، بعيداً عن رجال الدين.
كانت جميع العروض المسرحية من تأليفه وتلحينه وتمثيله، حيث اعتمدت كثيراً في بداياتها على المسرح الأوروبي، ثم صار يقدم عروضاً أقرب إلى الحياة اليومية، مستوحاة من التراث العربي، تتخللها فقرات غنائية وعدد من الموشحات والأدوار. قدم كل الوصلات الغنائية بنفسه، ليكون مؤسس المسرح الغنائي (الميوزيكال) ليس فقط في دمشق بل في العالم العربي.
وضع خلال مسيرته الفنية أكثر من ثمانين عملاً، ضاع معظمها بسبب أسفاره المتعددة. استعان بالطقوس الدينية، بما فيها من أناشيد وأدعية، وقام بنقلها من زوايا دمشق إلى خشبات مسارحها، لتكون عرضة لتأمل الجمهور ونقده، مما ضاعف من نقمة رجال الدين عليه، وكان على رأسهم الشّيخ سعيد الغبرا، أحد المُدرسين القدامى في الجامع الأموي.
وزاد من حفيظتهم أن معظم أعمال القباني كانت تحكي عن الحب في علاقات خارجة عن المؤسسة الزوجية، الأمر الذي أعتبره رجال الدين مخلاً بالآداب العامة.
حاول القباني إقناعهم بالحوار، ولكنهم رفضوا الاستماع إليه، فعرض عليهم مشاركتهم بعائدات شباك التذاكر، وقدم لهم بطاقات مجانية لكي يشاهدوا ما كان يحتوي مسرحه من قيم وعبر أخلاقية، ولكنهم رفضوا التعاون معه. وحده المفتي محمود الحمزاوي، صديق أبيه، قبل الدعوة ولباها.
فرقة القباني
استطاعت فرقة القباني، بالرغم من كل الضغوط المالية والاجتماعية، أن تستقطب أبناء كبرى العائلات الدمشقية إلى صفوفها، وكان على رأسهم الممثل الشاب عطا الأيوبي، الذي عرفه السوريون لاحقاً كأحد زعماء البلاد، والذي أصبح رئيساً للوزراء في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين.
كما ضمّت فرقة القباني نقولا شاهين، أحد أبناء حيّ القيمرية الذي دخل سلك الشرطة لاحقاً وصار مديراُ لشرطة دمشق في زمن الانتداب الفرنسي.(6) كما ضمت داوود خوري، وهو ابن موظف رفيع في الحكومة، وصالح درويش، الذي صار من أشهر أطباء الأسنان في سورية.
لم يكن بين أركان فرقته أي عنصر نسائي، نظراً لعدم دخول السيدات إلى عالم التمثيل، فكان القباني يطلب من الممثلين الذكور تقديم الأدوار النسائية، ولم يتردد أي منهم في ذلك، بالرغم من استهجان المجتمع ودعوات الإغلاق المتكررة التي ظهرت في خطب الجوامع، لأن الرجال صاروا، وبفضل القباني، “يتشبهون بالنساء.” كان هذا الأمر، دينياً، يُعتبر من الكبائر.
المواجهة مع رجال الدين
تداعى رجال الدين إلى تكفيره، وكانوا يرسلون الفتية والأشقياء لشتمه في حارات الشّام، يلاحقونه في الطرقات ويصرخون: “كافر…ماجن…زنديق!” ذهب الشيخ سعيد الغبرا إلى اسطنبول ووقف على أبواب الجامع، منتظراً خروج السلطان عبد الحميد الثاني. ثم خاطبه قائلاً: “أدركنا يا أمير المؤمنين. فإن الفسق والفجور قد تفشيا في الشّام!” قدم معروضاً للسلطان، باسم “الأئمة والعلماء،” أدى إلى إغلاق مسرح القباني بفرمان سلطاني.
المرحلة المصرية
لم يستسلم القباني فشدّ رحاله مع المغامرين من أعضاء فرقته متجهاً إلى مصر، حيث كانت الفنون وكان المسرح أكثر رواجاً وتقبلاً بين الناس. بواسطة تاجر حلبي مقيم في الإسكندرية إجتمع فور وصوله بالخديوي توفيق، الذي وضع مسرح الأوبرا الشهير في القاهرة تحت تصرفه بشكل مجاني، وقدم له قطعة أرض في ميدان العتبة الخضراء لكي يبني مسرحاً جديداً عليها.
ولإضفاء شرعية كاملة على عمله، ولكي لا يتعرض له أحد المشايخ المصريين، قام الخديوي توفيق بحضور عرض مسرحية “الحاكم بأمر الله،” برفقة رجالات الدولة المصرية.
لم يحميه هذا الدعم من شيوخ مصر، الذين هاجموه بقسوة كما هاجمه علماء الشّام من قبلهم، وشنت جريدة الزمان القاهرية حملة عنيفة ضده، جاء في إحدى مقالاتها:
وقد رأينا أول أمس ما تقشعرُّ منه الأبدان إذ كان رجال حالقون لشواربهم ولحاهم يقفون موقف النساء. وسمعنا البعض يصرخ من اللوجات: يا قلبي يا روحي” وما أشبه ذلك من الألفاظ التي لا تقال في محفل أدبي. فكيف بالله يرجى الإصلاح من منبع الفساد وكيف يُؤمن الآداب من عملٍ ليس إلّا قلّة حياء؟ ويا ليت أصحابنا اقتصروا على ملابس النساء أو حركات الفاضلات النازلات في مقام التشخيص بل رأينا منهم من التهتك وخلع العذار والإفراط في الغنج وعدم المبالاة بالآداب ما ألجأنا أن نحرم حضور الناس لتشخيصهم. على أن هؤلاء المشخصين ليسوا بمصريين بل هم بعض المطرودين من سورية.
ذات يوم وخلال تواجد القباني مع فرقته في مدينة المينا، قام مجهولون بحرق مسرحه، وعند محاولته استئجار موقع جديد، رفض المصريون التعاون معه، لأنه شامي، وكان ذلك بتحريض من نجوم مصر الذين بدؤوا يغارون من نجاحاته المتكررة ويرغبون بإقصائه عن أرض مصر. فشد الرحال عائداً إلى دمشق 1900.
زيارة الولايات المتحدة الأميركية
قبل توجهه إلى دمشق، سافر إلى مدينة شيكاغو في الولايات المتحدة سنة 1893 لحضور المعرض العالمي المقام هناك، وبقي فيها مدة ستة أشهر. وفي أمريكا تعلم القباني الكثير، فكان التسجيل الصوتي قد طرح للعوام واستطاع القباني أن يستمع لنفسه، ليعيد ويكرر ويطور نبرات صوته واداءه.
رُتّب بعدها لقاء وديّاً بينه وبين السلطان عبد الحميد الثاني، الذي أدرك أنه ظلم القباني في الماضي، فامر الوالي ومجلس الولاية بعدم التعرض له بتاتاً، وكان هذا بترتيب من مستشار السلطان الدمشقي أحمد عزت العابد.
السنوات الأخيرة
أدى عروضه الآخيرة بدمشق في منزل صديقه ابراهيم نقاش، يوم زفاف ابنه الوحيد في 10 حزيران 1901. وحينما دخلت صبية تحمل الخمور للضيوف، واستثنت القباني، نظراً للفته البيضاء الكبيرة. فقال لها مبتسماً: “يا فتنة للناظرين، لماذا لم تقدمي لي الشراب أسوة بالخاضرين؟ أجابت: “لأنك مُسلم والخمر محرم عندكم.” هنا مسك بعوده وأعطى إشارة للعازفين، وردّ عليها غناءً بالقول:
رب ساق قام يسعى صاد قلبي بالذوائب
قلت ناوليني الحميا قال كلا أنت تائب
قلت لما تبّت عنها كان هذا الحسن غائب.
لم يستمر مسرح القباني في دمشق إلّا سنة وأحد عشر شهراً، وكان عمر فترته في مصر أطول بكثير، وصل إلى 17 عاماً من العطاء، كان يقدم فيها أربعة أعمال في السنة الواحدة. مع ذلك، استطاع أن يُشرع مهنة التمثيل في مدينته، بالرغم من كل المضايقات، محدثاً زلزالاً في المجتمع الدمشقي.
الوفاة
توفي أبو خليل القباني في دمشق إثر اصابته بمرض الطاعون في 15 كانون الثاني سنة 1903.
تكريم القباني وتخليد ذكره
في محاولة لإحياء عمل من أعمال أبو خليل القباني ووضعه ضمن رؤية معاصرة، اختار الكاتب سعد الله ونوس مسرحيتي “هارون الرشيد مع غانم بن أيوب وقوت القلوب” لتكونا جزءً من عمل وضعه سنة 1973 بعنوان “سهرة مع أبي خليل القباني.”
وفي سنة 2010 اُنتخ مسلسل تلفزيوني عن سيرة حياته، كتبه خيري الذهبي وأخرجته إيناس حقي، لعب فيه الفنان باسل خياط شخصية أبو خليل. وقد جسد الشخصية أيضاً الفنان أسامة الروماني في إحدى احتفاليات دمشق المسرحية. كما غنى المطرب صباح فخري أشهر ألحان وكلمات القباني في “صيد العصاري” و”يا مال الشّام.”
وقد اُطلق اسم القباني على أحد أشهر مسارح دمشق، وعلى شارع في مدينة الاسكندرية القديمة، وصدرت عنه عدة كتب ودراسات منها “رائد المسرح العربي” لعبد الفتاح قلعة جي (دمشق 2000)، و”رائد المسرح الغنائي العربي“ لعادل أبو شنب (دمشق 2005) و”أبو خليل القباني: ريادة التجاوز” لمحمد بري العواني (دمشق 2010).
وفي سنة 2018 صدر كتابان قيمان عن القباني، للباحث والروائي تيسير خلف، الأول بعنوان “وقائع مسرح أبي خليل القباني في دمشق” والثاني “من دمشق إلى شيكاغو: رحلة أبي خليل القباني إلى أميركا 1893.”
المصدر: الموسوعة الدمشقية
0 تعليق على موضوع : أبو خليل القباني - رائد الفنون في سورية ومؤسس المسرح الغنائي في الوطن العربي
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات