فى صباح ثلاثيناتي رائق من عام ١٩٣٧، وبينما شوارع القاهرة تلتحف بجو خريفي جميل، كانت الأنسة أم كلثوم فى طريقها المعتاد إلي شارع الشريفين حيث مبني الإذاعة القديم ساحة معركتها مع الزمن لتخليد أسطورتها.
إعتادت سومة أن تستغل الطريق في مراجعة اللحن عبر دندنة بسيطة تنشغل بها عن العالم الخارجي تماما
لكنها في هذا اليوم وسط إندماجها جاءها صوت قدري أو قل هدية ربانية للأجيال أرسلها الله عبر حنجرة عبد من عباده في شكل جملة
جملة واحدة
لكنها قلبت كيان الأنسة أم كلثوم وإختطفتها من بئر تركيزها العميق
وألقتها في هوي المعني وصاحبه
وتتلفت حولها لتجد بائع متجول بسيط الحال رقيق المنظر يلقي جملته الآسرة بأعلى صوته منغما :
" ياليلة العيد أنستينا "
سومة في لحظة واحدة بعد أن أفاقت من سكرة المعني الجميل فهمت الرسالة الربانية وتلقت الهدية السماوية
وإحتفظت بالجملة الذهبية بقية طريقها إلي مبني الإذاعة لتلقيها في حجر أول شخص يقابلها وكأنها تلقي جمرة لا يجب أن تنتظر
وكان هذا الشخص هو بيرم التونسي
الأنسة تتحدث بلهفتها الطازجة لبيرم:
بص بقي يابيرم عاوزاك تقب وتغطس وتكتبلى أغنية تبدأ بالجملة دي
«ياليلة العيد أنستينا»
لم يكن في مقدور بيرم ولا ألف بيرم أن يرد لسومة كلمة وبدأ بالفعل في كتابتها لكن مرضه الشديد في هذا اليوم منعه من أن يرتبط إسمه بتلك الأيقونة
لم تستطع الست أم كلثوم المأخوذة بجمال الجملة أن تنتظر بيرم ليتعافي فأمسكت السماعة لتطلب أحمد رامي وتحكي له الحكاية بكل عنفوانها وحماستها :
أنا مش هستني بيرم يارامي أنا عاوز الأغنية دي بسرعة
رامي مع سومة يفعل أي شئ حتي لو قالت له إذهب لتحارب مع الحلفاء في الحرب العالمية القادمة
ساعات قليلة وكانت الأغنية مكتملة أمامها بخط يد أحمد رامي
لم تتمهل ورفعت سماعة التليفون علي الشيخ زكريا أحمد الربيب وشاهد بداية الرحلة الكلثومية:
أنا عاوزة لحن للأغنية دي ياشيخ زكريا.. العيد علي الأبواب
وقد كان
مساء ليلة عيد الأضحي عام ١٩٣٧ كان الجمهور المصري يستمع إلي صوت الأنسة أم كلثوم تغني ياليلة العيد أنستينا
حققت الأغنية نجاحا كبيرا كعادة أغاني سومة لكن بنت طماي الزهايرة كانت تري ما لم يراه غيرها
شعرت أن الأغنية ينقصها شيئا لتخلد في وجدان المصريين كأغنية رسمية للعيد
هذا الشئ لم تجده في لحن زكريا أحمد
ولأن الست إذا أرادت شئ فعلته
فوجئ الناس يوم وقفة عيد الفطر بعد سنتين في عام ١٩٣٩
بأغنية جديدة للعيد بصوت الست
نفس الكلمات ولكن اللحن هذه المرة لرفيق الرحلة الكلثومية الوفي رياض السنباطي
ويغني الناس مع سومة في كل مكان
"ياليلة العيد أنستينا .. وجددتي الأمل فينا "
من تلك اللحظة التاريخية بعد شهور قليلة من إندلاع الحرب العالية الثانية
ركبت أغنية سومة قطار الخلود
وصارت معادل رسمي وشعبي وتاريخي لبشري قدوم العيد
فهي الأغنية التي تنتشل الجميع من الغرق في شجن إنتهاء شهر رمضان خاصة بعد صدور أغنية شريفة فاضل في الستنيات " والله لسه بدري والله ياشهر الصيام"
ناهيك عما تفعله في النفوس ليلة عيد الأضحي
وهكذا أحكمت أغنية " ياليلة العيد" سيطرتها علي الوجدان المصري والعربي عبر العقود التالية دون أن يجرؤ أحد علي الإقتراب منها أو محاولة مزاحمتها في مهرجان فرحة العيد القومي المتجدد
فقد تغير كل شئ وقامت ثورة علي الملك الذي أنعم عليها بلقم صاحبة العصمة بسبب تلك الأغنية
وتتابع علي حكم مصر ٣ من الظباط الذين أسقطوا الملك
محمد نجيب ثم جمال عبد الناصر ثم أنور السادات
وقامت حروب وإهتزت عروش دون أن يهتز عرش أغنية العيد الرسمية
إلي أن جاءت الثمانينات
وما أدراك ما الثمانينيات
ظهرت فرقة إنتحارية "مقطعة بطاقتها" تريد أن تزاحم أغنية سوما بجلالة قدرها علي عرش بهجة العيد
…
ياللهول " بصوت يوسف وهبي"
…
المغامرون الأربعة تتقدمهم بنت لطيفة المعشر تمتلك روح طفلة لم تصل سن البلوغ بعد
إسمها صفاء أبو السعود
وقف خلف صفاء ثلاثي إنتحاري أخر بالترتيب
عبد الوهاب محمد وجمال سلامة وشكري أبو عميرة
…
المهمة الإنتحارية للرباعي كانت محددة مسبقا
نريد موضع قدم من بهجة العيد في قلوب الناس بجانب "ياليلة العيد"
المهمة ليست بسيطة
عبد الوهاب محمد حمل كلماته الجميلة إلي جمال سلامة أكثر الإنتحاريين تحمسا
"أهلا .. أهلا بالعيد
مرحب مرحب بالعيد"
..
كانت شادية المرشحة الأولى لخوض تلك المغامرة مع الثنائي المجنون لكن وعكة ألمت بها وجراحة ودخول مستشفى حالت دون ذلك
ذهبا الثنائي إلي صفاء أبو السعود :
هذه أغنيتك وفيها روحك لا يصلح أحد لتلك المهمة غيرك ياصفاء
صفاء إرتعدت مفاصلها وغلبها التردد وحبست الأغنية في درج مكتبها لمدة سنة ونصف خوفا من سطوة " ياليلة العيد"
الصخرة التي تحطمت عليه عشرات الأغاني فقدت في ظروف غامضة بعد صدورها في الأعياد
إلي أن ظهر العنصر الإنتحاري الرابع ليحرك المياه الساكنة
شكري أبو عميرة
مخرج التليفزيون شاب منطلق جرئ
علي أية حال قررت صفاء أبو السعود أن تستسلم للمهمة الإنتحارية
وفي عام ١٩٨٤ سجلت صفاء أغنيتها فى أحد إستديوهات ماسبيرو
وبعدها مباشرة كانت مستسلمة لكاميرا شكري أبو عميرة وتوجيهاته
في حديقة حيوان الجيزة وأمام جامعة القاهرة ومحتمية بجيش من الأطفال حاملي البلالين ومرددين ورائها
هيه هيههه هيههههه
جانا العيد أهو جانا العييد
شكري أبو عميرة كان أكثر المتحمسين من فرقة الإنتحاريون الأربعة لعرض الأغنية سريعا
وبالفعل في وقت قياسي تستيقظ صفاء أبو السعود علي سيل من التليفونات في بيتها صبيحة يوم العيد الموعود :
إفتحي التليفزيون ياصفاء دلوقتي بسرعة
…
تجري صفاء مهرولة إلي زر التشغيل لتجد العملية الانتحارية تجتاح الثلاث قنوات
الأولي والثانية والثالثة
ماهذا ؟ أغنية أهلا بالعيد ؟
…
هل نجحنا؟
السؤال الذي داعب خيال المبدعين الأربعة
صفاء وعبد الوهاب محمد وجمال سلامة وشكري أبو عميرة
وتبعه سؤال أخر
هل أصبح لأغنية أهلا بالعيد مكانا بجانب ياليلة العيد
…
يبدو أنه نعم
…
من بعد منتصف الثمانينات تم تقسيم بهجة العيد بالنصف
نصفها يوم الوقفة مازالت تحت سيطرة أم كلثوم وأيقونتها
"ياليلة العيد"
والنصف الأخر موزع علي أيام العيد إختطفته الطفلة الجميلة " صفاء أبو السعود هي وأطفال البلالين " بمعجزتهم
"أهلا أهلا بالعيد"
…
وتلك هي قسمة العدل علي ما أظن
وهنيئا لنا نحن بالحسنيين
منقول عن ريحة الورق
0 تعليق على موضوع : ياليلة العيد أنستينا .. وأهلا بالعيد - عملية صفاء أبو السعود الإنتحارية لمزاحمة الست أم كلثوم - ووقائع معركة عبر الزمن بين عبد الوهاب محمد وجمال سلامة وشكري أبو عميرة في الثمانينات مع رامي والسنباطي في الثلاثينات
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات