-->
تسجيلات زمان تسجيلات زمان

آخر الأخبار

جاري التحميل ...

بعد 36 سنة من الغياب: ماذا تبقى من فريد الأطرش؟

في السادس والعشرين من شهر كانون الاول/ديسمبر كل عام، تحتفل الأوساط الفنية والموسيقية في العالم بالذكرى السنوية لرحيل الموسيقار فريد الأطرش، وكالعادة مع مقدم ذكرى كل فنان من فناني الزمن الجميل يتساءل المهتمون بالشأن الغنائي في ما إذا كان لا يزال للخالدين ذكرى ومكانة في القلوب في ظل سيادة الضحالة الفنية والإسفاف الغنائي الذي تغذيه موجة الفيديو كليب ومغنيات العري. مر ما يقارب الأربعة عقود على غياب فريد، ونحن على أعتاب ذكرى سنوية جديدة تباعد بيننا وبينه الزمان، يجدر بنا أن نتساءل بعد طول سنين من الغياب: ماذا تبقى من فريد الأطرش؟
كمطرب، تكمن عبقرية فريد في أنه ظهر في زمن العمالقة، ففي زمانه ولدت للأمة العربية كوكبة من المطربين والمطربات قلما يولد لأمم الأرض نظير لهم على امتداد قرون من الزمان. حين ظهوره كانت كل الدلائل تتنبأ له بمستقبل قصير في ساحة الغناء والطرب؛ كان صوته حزينا ببحة غريبة اعتبرها البعض عيبا ورآى فيها البعض الآخر ميزة. رغم وجود أصوات جميلة جبارة مفتوحة الحناجر، ثبت قدميه على مسرح الغناء وأصبح ينافس على الصفوف الأولى، كان الصوت النسائي الأول محجوزا للسيدة أم كلثوم لكنه نافس محمد عبد الوهاب بضراوة على موقع الصوت الرجالي الأول، وما ان تقاعد الأخير حتى برز قادم جديد قدم على أنه ابن ثورة 23 يوليو وبوقها، لقد مسح عبد الحليم حافظ بأسلوبه الجديد وبصوته الحريري البديع أغلب الأصوات الرجالية وأحالها الى المعاش الفني، وحده فريد الأطرش ظل قلعة لم يستطع عبد الحليم أن يدكها فظلا يقتسمان الزعامة حتى مات فريد ولحق به حليم فأقفرت ساحة الطرب العربي، لقد ظل فريد أربعين سنة في القمة يغني من دون ملل ولا كلل؛ رقم قياسي من النجاح لم تسبقه إليه إلا أم كلثوم التي ظلت متربعة على عرش الطرب لمدة خمسين سنة كاملة.


كملحن لم ينل فريد الأطرش من التكوين الأكاديمي في الموسيقى ومن الصقل والاحتكاك ما ناله غيره، لكنه كان موهوبا واستطاع أن يطاول الخمسة الكبار في عصره؛ سيد درويش، الشيخ زكريا أحمد، محمد القصبجي، محمد عبد الوهاب ورياض السنباطي، لحن في كل الأشكال الغنائية باسثتناء الموشح والدور والمسرح الغنائي وذلك لأن شمس هذه الأشكال بدأت تغيب حين التحق بدنيا التلحين في أواخر الثلاثينات من القرن الماضي، برع بشكل خاص في الأوبريت التي كان فارسها الأوحد وأول من قدمها بالشكل الذي راعى ضوابطها الفنية والأكاديمية المتعارف عليها. كان أيضا ملك التانغو، هذا الإيقاع الراقص الآتي من الأرجنتين تدين الموسيقى العربية بإدخاله مجال الغناء للموسيقار محمد عبد الوهاب، لكن فريد الأطرش هو من أرسى قواعده التلحينية، حتى إن بعض أعماله صارت من كلاسيكيات هذا الفن على مستوى العالم، ويكفي أن نذكر أن رائعته 'يا زهرة في خيالي' هي اليوم المعزوفة الموسيقية العربية الأكثر أداء في العالم، فقد قدمت بسبع لغات حية عدا العربية لغتها الأصلية.


في مجال القصيدة لم يقدم فريد إلا أعمالا محدودة العدد لكنها شاهدة على تطور واضح في تلحين هذا الشكل الغنائي ويكفي أن نذكر هنا بأعمال من قبيل 'ختم الصبر بعدنا بالتلاقي وعش أنت ولا وعينيكي والشاطئ'. وفي مجال الموسيقى البحتة قدم فريد روائع مثل 'مقدمات حبيب العمر وبنادي عليك ونجوم الليل' ومعزوفات 'توتة وليلى وزمردة وسوق الجواري وسوق العبيد'، تنافس على توزيعها أوركستراليا كبار الموزعين العالميين أمثال فرانك بورسيل وتومي دانادو وهوجو بيان وكلود سياري ورون كودوين، وكانت له مساهمات في مجال الأعمال الكلاسيكية الكبيرة المتسمة بالتنويع الموسيقي والمقامي البين ومسحة الحزن والحركة البطيئة؛ فقدم روائع مثل 'الربيع وأول همسة وحكاية غرامي وبنادي عليك وبقي عايز تنساني وياقلبي يامجروح' إلا أنه سرعان ما انصرف عنها ليكرس خطه التلحيني حتى نهاية حياته للأغنية الشعبية الخفيفة الراقصة التي تأخذ بمجامع القلوب؛ خط انتزع إعجاب السامعين لكنه أوقف الموسيقار الحزين عن مزيد من المساهمات في تطوير الموسيقى العربية.


وإذا تحدثنا عن فريد الأطرش عازف العود، فسنعود إلى زمن كان فيه الموسيقار الكبير ضمن كوكبة ذهبية من العوادين يصعب أن يجتمعوا في زمن واحد، أمين المهدي بحلاوته وفؤاد غصن بمقدرته ومحمد القصبجي بنقرته الواثقة المقتدرة ورياض السنباطي برشاقته ومنير بشير بخياله، مع وجودهم شهد لفريد الأطرش بمقدرة كبيرة في السيطرة على الآلة وتطويعها مع تمكن فائق من تكتيك العزف واستعمال رهيب للريشة، يقول منتقدوه ان خياله في العزف لم يصل إلى التنويعات التي قدمها هؤلاء الكبار مستندين الى التسجيلات المتوفرة عن عزفه، لكنهم تناسوا أن هذا العواد الأسطوري لم يقدم التقاسيم بمعناها الدقيق التي تعني أن يعزف العازف بارتجال دونما تقيد بلحن موضوع سلفا، وإنما قدم معزوفات على العود لأنه حاول دوما استرضاء الجمهور الذي كان يطلب في كل حفلة نفس التقاسيم، مرة تقسيمة البياتي ومرة التقسيمة الشهيرة على الحجازكار.
ومادام الحديث موصولا عن الجمهور، فيجدر التنبيه إلى أن فريد الأطرش هو أكثر المطربين الرجال وقوفا على المسرح في الحفلات العامة، ويأتي في الترتيب بعد الأسطورة أم كلثوم، فمنذ أن وقف أمام جمهور كازينو بديعة مصابني في بداية الثلاثينات حتى ظهوره الأخير في بيسين عالية ثلاثة أشهر فقط قبيل وفاته، حافظ المطرب الموسيقار على تقليد الظهور على المسرح رغم تحذيرات الأطباء من مضاعفات قصور القلب الذي لازمه حتى قضى عليه، كان المسرح يمنحه فرصة إبراز أعماله في أبهى صورها، فالأداء الحي عامل على السلطنة وعلى التنويع الذي لا تتيحه إكراهات الأستوديو وكان يمنحه مكنة أداء هوايته المفضلة الموال سيرا على نهج اساتذته في المجال أمثال محمد العربي عبد اللطيف البنا، أبدع في الموال الشامي وقدم نادرا الموال العراقي لكنه تفوق على المصريين أنفسهم في الموال المصري الذي أجاده في امتدادته وقفلاته.


في مجال السينما ساهم في نهضة السينما في مصر مطربا وملحنا ومنتجا وممثلا، فمثل وغنى في 31 فيلما أنتج 19 منها لفائدة شركته الخاصة أفلام فريد الأطرش، إضافاته في المجال كثيرة منها: تطوير فن الأوبريت؛ إدماج الديالوج أو المحاورة الغنائية في السياق الدرامي للفيلم، تقديم المقدمات الموسيقية الطويلة للأغاني بالتوزيع الأوركسترالي، توظيف الموسيقى لخدمة الرقص، استلهام الموسيقى التصويرية من أغاني الفيلم، عايش الانتقال المر من السينما الاستعراضية في الأربعينات والخمسينات بإمكانياتها الضخمة إلى السينما الغنائية في الستينيات بفقرها الاستعراضي والجمالي الذي فرضه التقشف في الإنتاج بفعل تأميم القطاع، لقد كان بحق أطول المطربين عمرا في السينما ولم تجاريه في غزارة أعماله من أهل الطرب إلا السيدة ليلى مراد.


أخيرا وليس آخرا تبقى أبرز إسهامات فريد الأطرش في مجال الموسيقى العربية، أنه كان سفيرها المعتمد إلى العالم، فقد قرب النغمة العربية إلى الأذواق في جميع أرجاء المعمورة عبر مجموعة من المستويات منها استلهام الاقتباس الخلاق البعيد عن السرقة والتهجين وتطويع الآلات الغربية للنغمة الشرقية مع التوظيف الذكي للايقاعات الغربية كالفالس والتانغو والسامبا والرومبا والفوكس ستروت، لقد نقل الموسيقار فريد الأطرش الموسيقى الشرقية إلى العالمية، والدليل على ذلك أن كبار المطربين والمطربات في العالم رددوا أجمل ألحانه بكل لغات العالم؛ فغنى له من الاتحاد السوفييتي السابق كبار المطربين أمثال باتير زكيروف ونيكيتا نيكولا وفلاديمير تروشين وستان رحيموف وإمران إيسمانوف ولينا ملاك، ومن الأتراك الأسطورة زكي مورن وفيردي أوزبكان وإيسين غول وفيردي تايفور، وردد ألحانه بالعبرية مايا كازبيانكا ويردينا أرازي وديفيد أسراف وموشي شابشا، كما شدت بأغانيه المطربة العالمية داليدا والكندية إيزابيل باريكادريان والمطرب الهندي الكبير محمد رافي والأصوات أكثر من أن تعد أو تحصى.
قد يكون فريد الأطرش اثناء حياته متواريا من الناحيتين الإعلامية والرسمية مقابل الحضور الطاغي لملحنين وأصوات نافسته على الصدارة بلا هوادة، لكن مع مرور الزمن أخذ هذا الفنان المبدع ينال حجمه الحقيقي باعتباره ركيزة لا غنى عنها في الموسيقى العربية الحديثة أو لم يقل يوما في عز التجاهل والإقصاء 'سيعرفون قيمتي بعد مماتي

منقول عن أسرة منتدى سماعي للطرب الأصيل

كاتب الموضوع

تسجلات زمان

0 تعليق على موضوع : بعد 36 سنة من الغياب: ماذا تبقى من فريد الأطرش؟

  • اضافة تعليق

  • الأبتساماتأخفاء الأبتسامات



    إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

    إتصل بنا

    جميع الحقوق محفوظة لـ

    تسجيلات زمان

    2017