يكفي
أن نذكر الراقصتان تحية كاريوكا وسامية جمال، لنعرف أهمية بديعة، بل يكفي أن فريد
الأطرش كان من رواد كازينو بديعة، لنصبح بذلك أمام حكاية انسانة ولدت من شقاء بقي
تحت جلدها بالرغم من الثروة التي جمعتها والشهرة التي حظيت بها في العالم العربي.
من أين نبدأ في وصف شقاء بديعة مصابني، ولدت
سنة 1894 في دمشق من أم شامية وأب لبناني، لم يكن اسمها مصابني سوى لقب اكتسبه
أفراد اسرتها بسبب عملهم بمصبنة تقع في احدى شوارع دمشق، تعرضت للاغتصاب في
السابعة من عمرها، واعتلت خشبة المسرح ولم تزل تحمل اسمها الحقيقي بديعة وتقول إن
الناس لقبوها ببديعة لجمالها، ولم ترضى تغيير اسمها عندما عملت في الفن.
قالت في مذكراتها التي دونتها الكاتبة نازك سبيلا:
" لم أرضى تغيير اسمي لأني لم أكن أملك سوى اسمي أتصرف به بحسب مشيئتي، ولأنني
اردت أن انتقم ممن احتقروا فقري وترفعوا على والدتي العجوز ومن تسببوا في عثرتي
وفي تذوق مرارة العيش، يوم كنت لا أحلم الا بتذوق الحلوى.
وبدأت بسرد ذكرياتها: " كانت عائلتنا
مؤلفة من امي وأبي وسبعة اشقاء: أربعة صبيان وثلاث بنات، ويجدر بي هنا أن اعترف
بجميل والدي الذي كان على خلاف أهل زمانه، يعتني بترية البنات وتعليمهن كاعتنائه بتربية
الذكور تماما أما الأم فكانت امية.
مات الأب ففقدت الوالدة سندها المادي
والمعنوي، ويبدو ان الاب الذي لم تكد تعايشه بقي بالنسبة اليها الحلم الذي بحثت
عنه طوال حياتها. لم ترض الأم ببيع مجوهراتها لتؤمن مستلزمات العائلة، ولكن المجوهرات
سرقت منها بعد ذلك، وبدأت المشاكل، ذلك كله تم قبل أن تبلغ بديعة السابعة من
عمرها، وفي هذه السن تعرضت للاغتصاب، وتقول انه غير مجرى حياتها، فقد اغتصبها صاحب
الخمارة التي كان الأخ الأكبر توفيق يمضي فيها معظم اوقاته.
وصفت بديعة مصابني حادثة الاغتصاب التي تعرضت
لها بالكلمات التالية:
" وسرعان ما انقض علي صاحب الخمارة
انقضاض ذئب مفترس على نعجة صغيرة لا تقوى على حماية نفسها، فأخذت ابكي وأستغيث من
دون جدوى"
وعندما عادت بديعة الى البيت انقضت عليها والدتها
واخذت تولول وتقطع ثيابها، واصرت أن يحاكم الجاني، "وكانت الفضيحة وارتفعت
الأصوات بين متهمة ومبررة، وأصبحنا مضغة في افواه الناس، وبعد أن ثبتت التهمة حكم
على صاحب الخمارة بسنة سجن وبغرامة قدرها مائتا ليرة ذهبية.
بعد حادثة الاغتصاب بدأت بديعة مصابني تسمع كثيرا
عن معنى الشرف في المجتمع، وفي مذكراتها تتحدث كثيرا عن هذا الموضوع، قالت: "
وقفت عند الباب مذهولة أتسأل عن معنى الشرف عند هؤلاء الناس، لم يهتم واحد منهم
بمساعدتي على العيش بشرف، لم يهتم واحد منهم في الحفاظ على سمعة عائلته، رافقت
أشقائي الى آخر الدنيا، فتركوني وذهب كل واحد منهم الى بلد، ولم يكلفوا أنفسهم
عناء السؤال عني، وادتي أذاقتني المر على أن كبرت وأصبح بمقدوري ان ادافع عن نفسي،
وعدت الى التساؤل، ما معنى الشرف؟ إنهم لا يعيرونه أي اهتمام عندما لا يتفق ومصالحهم،
فلمادا اتمسك به انا؟ لماذا اتمسك به على أنقاض حياة كريمة؟ وصممت على أن اتخلى عن
الشرف.
تشردت عائلة بديعة، مرضت الأخت الكبرى ماتت،
ولجا الاخوة الشباب الى الدير، ثم راح كل من في طريق خاص به، بقيت بديعة مع أختها
الثانية نظله ووالدتها في البيت، موقف الناس منها ومن أختيها جعلها تحقد عليهم،
كانت تتحمل السخرة والشماتة من الناس والظرب والتعذيب من أمها وشقيقتها معا وهي
طفلة لا تفقه معنى لهذه الأمور.
قررت العائلة الهجرة الى الأرجنتين، وقد رهنت
الوالدة البيت لتامين نفقات السفر على متن باخرة، وهناك في المدرسة تعلمت بديعة
الإسبانية، وتزوجت أختها نظله من ميخائيل جرجس وهو في الخمسين من عمره، وما لبث ان
تفرقت العائلة مجددا بسبب فشل الإخوة الشباب في بناء أي شيء في بيونس آيرس، وإصرار
الام على اخراج بديعة من المدرسة.
تكتب الباحثة ماري الياس عند بديعة ان علاقة الأخيرة
كانت ملتبس، اذ قالت في مواقع عدة عن مذكراتها " تذكرت عصا امي" وأكدت
أن الام كانت مصابة بنوع من الهيستيريا، بسبب الظروف التي مرت بها، من ابتعاد أبنائها
عنها، احتراق معمل الصابون، سرقة المجوهرات، الى حادثة الاغتصاب، لذلك كانت مصابني
تغضب منها أحيانا وتشفق عليها أحيانا أخرى، وتتهمها بنوع من الكذب وعدم الصراحة،
خصوصا بالنسبة الى المال.
وصفت بديعة حالة الام التي اعتبرتها احدى
مصاعب حياتها، بانها كانت تحث عليها مشاركتها في فراشها، الذي كانت تطرحه على الأرض
ولم يكن لديها سرير. كانت قلقة لا تعرف النوم طوال الليل، وتأخذ بالصلاة فصوت
مرتفع. أما صلاتها فكانت غريبة عجيبة.
كان الزواج بالنسبة الى بديعة حلا من الحلول،
ولكن المحاولات كافة في هذا المجال باءت بالفشل، فدائما ما كان الناس يتدخلون
لرواية حكاية اغتصابها. شكلت بديعة قناعتها الخاصة، وكانت في كل مرة تهجر الحلول
التقليدية بعد ان تختبرها، بداية في دمشق ثم في بيروت، وعندما انفصلت هي ووالدتها
عن العائلة خصوصا الأخ الأكبر الذي سطا على البيت، حاولت العمل، عملت في الابرة
والمكوك، وصنعت الملابس لسيدات بعينها.
كان الدخل ضعيفا والطموح كبيرا، وهي تقول:"
قررت التخلص من حياة الفقر بأي وسيلة" وتذكر كيف كان أول عهدها بالمسرح من
خلال تلك الأيام البعيدة، في المدرسة في الارجنتين، حيث كانوا يعهدوا اليها دوما بأدوار
البطولة في الروايات التمثيلية الغنائية.
عندما جاءت بديعة الى القاهرة انظمت الى فرقة
جورج أبيض ومنذ اليوم الأول الذي عملت فيه برزت كفنانة وراقصة تجذب قلوب الرجال
وانظارهم، فقد كانت ذات مواهب متعددة في الرقص والغناء والتمثيل، وكان من بين نجوم
الفن آنذاك الشيخ احمد الشامي الذي كان يبحث عن بطلة تتمتع بتلك المواهب المتعددة.
لما سمع الشامي عن بديعة سعى اليها ليضمها
إلى فرقته ويسند اليها أدوار البطولة مقابل راتب شهر كبير، وقد جمعتها آنذاك
الصدفة بالفنان نجيب الريحاني الذي قرر التعاون معها بعمل مشترك وأعد لها مع بديع
خيري مسرحية " الليالي الملاح" التي نجحت فنيا وجماهيريا واسهمت في
تعريف الجمهور ببديعة مصابني.
بعد ذلك أدت بديعة دور البطولة في مسرحيات
عدة من خلال فرقة نجيب الريحاني ومن بينها " الشاطر حسن" " أيام
العز" " ريا وسكينة" " الفلوس ومجلس الانس" وفي هذه
الأثناء اتفقت والريحاني على الزواج، بعد أن أحب كل منهما الآخر، وعلى رغم ذلك
الحب، الا ان الحياة بينهما لم يقدر لها الاستمرار لاختلاف طباعهما لذا قررا
الانفصال، وفعلا انفصلت بديعة عن الريحاني، وأسست مسرحا استعراضيا لها، وجمعت من
خلاله ثروة طائلة.
يقول الريحاني في وصف بديعة في اول حفلاتها
هناك (يقصد لبنان) لفت نظري سيدة
( بتلعلع
) وقد ارتدت افخم ملبس وتحلت بأبهى زينة، لم اعرفها حقا لكن تنبهت لوجودها في فترة
الاستراحة بين الفصول، أدهشني أن وجدت هذه السيدة بذاتها تحضر لتحيتي وتهنئني في
حجرتي بالمسرح، ويظهر أنها لاحظت ما انا فيه من ارتباك فدفعها ذكاؤها الى تعرفني
بنفسها فقالت: الا موش فاكرني والا ايه؟ أنا بديعة مصابني اللي قابلتك في مصر
وكتبت وياك كنتراتو ولا اشتغلتش.
لكن طموح بديعة كان أكبر من مسرح الريحاني
وبيته، افتتحت أول صالة رقص تملكها راقصة، وهي مكان فندق شيراتون القاهرة الآن (قريبة
من معسكر الإنجليز في قصر النيل)
أصبح كازينو بديعة مؤسسة هي الأولى من نوعها،
وسجلت باسمها رقصة خاصة (الشمعدان) وأصبح الكازينو مدرسة تخرج منها فريد الأطرش
وتحية كاريوكا وسامية جمال وهاجر حمدي ومحمد فوزي ومحمد الكحلاوي وغيرهم كثير.
تزعمت بديعة مصابني المسرح الاستعراضي نحو ثلاثين
عاما، جمعت خلالها ثروة طائلة، وعلى رغم ذلك كانت تعاني من ثلاث عقد بحسب رأي النقاد:
الأولى أنها تعرضت للاغتصاب حين كان سنها سبعة
سنين
الثانية
أنها عندما كانت طفلة كانت تعاني فقرا شديدا مع أمها السورية ووالدها اللبناني ما
جعلها تأتي الى مصر مع أمها وكانت تبحث عن خال ثري لها،
لكن بعد رحلة طويلة من البحث والعناء وجدتا
قبره في بلبيس بالشرقية (85 كيلو متر شرق القاهرة) .
أما عقدة الثالثة فهي الخلل العائلي التي
عاشته عندما توفي والدها وهي لا تزال طفلة وهجرة أشقاءها وتفرقهم في بلدان كثيرة،
ذلك كله كان من الأمور التي شكلت طبيعة بديعة مصابني وجعلتها تبحث بنهم عن المال
بأي شكل حتى أنها أقات علاقات مع الساسة ورجال المال والاعمال.
بعد انتهاء الحرب حاولت بديعة العودة
واستعادة مجدها، فقد جمعت ثروة كبيرة وهي تريد الشهرة ومزيدا من المال غير أن معظم
المواهب التي رعتها سابقا، كانت ذهبت وانخرطت في مجال السينما، وبذلك خسر مسرحها
الاستعراضي بعدم عودة هؤلاء النجوم السينمائيين اليه وبدأت الضرائب تطالبها بديوم
قديمة لم تسددها، وتضيق عليها الخناق وتهددها بالحجز والبيع.
جمعت الفنانة ثروتها وقررت الهرب الى لبنان،
اتفقت مع طيار انجليزي على تهريبها وتخفت في ملابس راهبة في مستشفى واستقلت
الطائرة التي كانت رابضة في مطار روض الفرج الجوي قبل الغائه، واستقرت في مدينة شتورة
عام 1950 واسست متجرها التجاري الأول بعد ذلك التاريخ بعامين، وبنت أيضا منزلها
المعروف اليوم في لبنان بفيلا «عقل" لكنه هدم وجرف.
أمضت بديعة 24 عاما في شتورة قبل أن تودع
الحياة الصاخبة في 23 يوليو "تموز" 1974 وتدفن في منطقة البترون، ويقول
الياس سعادة انها لم تشعر يوما بالألم ولم تعان امراضا ومشاكل صحية، وقبل أن تموت
وقعت على الدرج وادخلناها الى مستشفى تل شيحا وزحلا ومن ثم فارقت الحياة.
ماتت بديعة عن عمر يناهز السادسة والثمانون
وما زال متجرها في شتورة يقصده كثيرون ليتذكروا هذه السيدة التي كانت لها صولات
وجولات فيما مضى في القاهرة.
0 تعليق على موضوع : صنعت سامية جمال وتحية كريوكا .... تعرضت للإغتصاب وعمرها سبعة سنوان ... ألجأ الفقر عائلتها للهجرة من مسقط رأسها - صنعت نجومية ورثروة هائلة
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات